فتحت الحكومة المصرية النيران على الزيادة السكانية، وصدرت التصريحات من رموز السلطة ضد ما أطلقوا عليه الانفجار السكاني، وتم حشد قوة الدولة لمواجهة هذا الخطر الجديد، الذي اكتشفوه فجأة ليعلقوا عليه الفشل في كل الملفات داخليا وخارجيا، ولإبعاد الأنظار عن بيع ممتلكات الدولة للأجانب، والإلهاء عن أكبر عملية تجريف وتفكيك يتعرض لها المجتمع.
بدلًا من توفير الوظائف لملايين العاطلين وبناء المساكن للشباب وإيجاد حلول لمشكلة توقف الزواج الذي أصبح ظاهرة تهدد المجتمع وتؤرق جيلين في الوقت الحالي، راحوا يتحدثون عن تثبيت عدد السكان وإخصاء المصريين، وإظهار الضيق من وجود الشعب نفسه!
وتطورت الحملة التي تقودها الماكينة الحكومية إلى التدخل في الحياة الأسرية وحق الإنجاب؛ بمناقشة قانون يشترط حصول الزوجين على موافقة حكومية ورخصة قبل الإنجاب كل 5 أو 10 سنوات، وفرض غرامة مالية في حال عدم الالتزام برخصة الإنجاب، وحرمان الأطفال من التعليم والعلاج!
تحويل النعمة إلى نقمة
بدأ الحملة عبد الفتاح السيسي في أكثر من مناسبة وهاجم الزيادة السكانية واعتبرها خطرا يهدد التنمية، وعلى خطاه سارت الحكومة، وخرجت علينا منذ أيام وزيرة التضامن غادة والي تهاجم الصعايدة وتتهم محافظات الصعيد بارتفاع نسبة المواليد، وتعهدت بأن الحكومة ستضع خطة للسيطرة على الخصوبة!
ومن التصريحات التي تكشف عداء الحكم الحالي للعنصر البشري والتعامل معه كخطر وكارثة تصريحات اللواء أبو بكر الجندي رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الذي قال في المؤتمر العلمي للمجلس القومي للسكان إن "العالم يحسدنا على المعدل السكاني في مصر، وهناك نسبة 60% منهم شباب يحسدنا عليهم الكوكب، لكن في ظل الأوضاع الحالية، هذه النسبة كارثة وانتحار"
وفي كلمات صادمة أكد الجندي أن "السكان نقمة ومشكلة لأننا لا نملك الموارد التي تصرف عليهم كي يكونوا سكان" أي أنه يرى أن الشعب المصري لا يستحق أن يطلق عليهم "سكان" ولم يكن هذا ذلة لسان لأنه واصل كلامه قائلا: "هم ليسوا سكان الآن.. هم ناس حاجات هلامية عبء على المجتمع بيشدوه تحت".
وهذه اللغة العنصرية، والنظرة المتغطرسة للمصريين وكأنهم "كائنات هلامية" لا تستحق الحياة لغة غير مسبوقة، حيث لا يوجد تمايز عرقي ولا توجد في تاريخنا فكرة التفوق العنصري نظرا لأن المجتمع المصري نسيج واحد لا يعرف مثل هذه النزعة المتعالية.
الطاقة البشرية
هذه المواقف التي لا تدرك أهمية الطاقة البشرية تكشف عن حالة من الجهل والحماقة، فالإنسان ليس هو المشكلة، وإنما الكارثة هي الإدارة الفاشلة التي لا تعرف كيف توظف أهم عناصر قوة الدولة، وتستخف بالعقول وتخوض معارك ضد طواحين الهواء، وتظن أن تحميل المواطنين فاتورة فشلهم يعفيهم من المسؤولية.
لقد قامت الحضارات الكبرى بسواعد البشر، ففي الصين والهند ومصر وبلاد الإغريق، اعتمدت الإمبراطوريات والحضارات على الكثافة السكانية، وحتى الولايات المتحدة كنموذج حديث فإنها لجأت إلى استقدام ملايين السود لزراعة الأرض وتشغيل المصانع وبناء قوتها الاقتصادية والعسكرية لحكم العالم.
عدد السكان الكبير ميزة تضاف لقوة الدولة، فالصين التي يبلغ عدد سكانها 1,4 مليار نسمة والهند التي يبلغ عدد سكانها 1,3 مليار نسمة بهما أكثر من ثلث سكان العالم (7,6 مليار نسمة)، وتصعدان بقوة، بل إن الصين تنطلق نحو الزعامة وإزاحة الولايات المتحدة (324 مليون نسمة).
الصين الآن بسكانها، هي أقوى اقتصاد في العالم، واستطاعت بإدارة مركزية ذكية توظيف طاقاتها البشرية الضخمة، والسيطرة على الاقتصاد والتجارة في القارات الخمس، والتفوق على أمريكا وأوربا، وأصبح المنتج الصيني في كل الأسواق.
والهند هي الأخرى تتقدم خلف الصين بقوة، وبسبب حرية تداول السلطة والقضاء على الفساد استطاعت الحكومة المختارة من الشعب أن توظف الطاقة البشرية الهائلة في حجز مكانها المتقدم في مجالات الفضاء والتقنية حتى أنها تفوقت في مجال البرمجيات، وأصبحت معظم بنوك العالم تعتمد على المبرمجين الهنود.
وإذا نظرنا إلى اليابان التي يبلغ عدد سكانها 127 مليون نسمة يعيشون على مساحة قدرها 377 كيلومترا، أي ثلث مساحة مصر من أكبر الدول المتقدمة في العالم ولها الريادة في عالم التقنية، وكانت القوة البشرية هي سبب الصعود الياباني في العهد الإمبراطوري قديما، وحتى بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية حافظ اليابانيون على تقدمهم العلمي والاقتصادي.
الفرق بيننا وبينهم أن الحكم عندنا يبيع المصانع والأرض والجزر، ويدمر الإنسان ويسلم رقابنا للأجانب، بينما هم يحترمون الإنسان ويبنون المصانع ويزرعون أرضهم ويزيدون الإنتاج ويوظفون الطاقة البشرية بشكل صحيح وعادل.
تجريد المواطن من جنسيته
وقف الإنجاب والسعي لوطن بلا أطفال وخنق المستقبل يتواكب مع ممارسات أخرى ضد المصريين، بالتجويع والتعطيش والإفقار، ولكن لم نكن نتخيل أن يصل بهم الأمر إلى إلغاء حق المواطنة، ففي أبلغ عدوان ضد الإنسان المصري ما جاء في مشروع القانون الذي وافق عليه مجلس الوزراء وأعطى السلطة حق نزع الجنسية بمبررات تنطبق على كل شخص لا يؤيد الحكومة!
في تعديلات قانون الجنسية تم التوسع في سحب الجنسية المصرية، لتشمل "كل من صدر بحقه حكم قضائي يثبت انضمامه إلى أي جماعة، أو جمعية، أو جهة، أو منظمة، أو عصابة، أو أي كيان، أيًا كانت طبيعته أو شكله القانوني أو الفعلي، سواء كان مقرها داخل البلاد أو خارجها، وتهدف إلى المساس بالنظام العام للدولة، أو تقويض النظام الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي لها بالقوة، أو بأية وسيلة من الوسائل غير المشروعة".
وهذه الصياغة المطاطة تجعل كل المصريين تحت مقصلة الحاكم، فالإدانة تشمل كل من تتهمه الحكومة بالوقوف ضد السلطة حتى لو استخدم طريقة مشروعة، وسواء كان في كيان قانوني أو جمعية أو منظمة بالداخل أو بالخارج، وهذا يعني أن يتحول المصريون إلى "بدون" ليس لهم حقوق وليسوا مواطنين!
ووفقا لهذه الصياغة الشيطانية تستطيع الحكومة نزع حق المواطنة وتهجير المصريين من الأراضي المطلوبة لإسرائيل الكبرى، ومن يرفض التهجير سيتهم بأنه "ضد النظام العام للدولة"، ويساهم في "تقويض النظام الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي"، والغريب أن الحكومة كانت قد أعدت قانونا لبيع الجنسية للأجانب ومن بينهم الإسرائيليين مقابل وديعة دولارية!
نحن أمام استهانة بالإنسان المصري، ومن يتولون أمره فقدوا حسهم الإنساني، لا يحبون شعبهم، ولا ينتمون لوطنهم، ولا يحترمون دينهم، وكأنهم عرق مختلف من غير المصريين، وشعب آخر غير الشعب، يتعاملون مع البشر وكأنهم جاءوا من كوكب آخر.
هؤلاء الذين يحاربون الإنسان يدمرون الوطن، ويضعون نهاية للدولة المصرية، فلا تقوم دولة بدون الإنسان، ولا مستقبل بتدمير الحاضر، ولن تجدي الهتافات بـ "تحيا مصر" 3 مرات بينما المصري يتم تجويعه وإهدار كرامته، والاستخفاف بحقه في الحرية والحياة.
الإنسان هو أكرم خلق الله على الأرض، ومن أجله سخر الله الكون، وهو محور أية حضارة وأساس أية تنمية، ولا تتقدم دولة ترى أن الإنسان هو المشكلة، ولا تحيا أمة ترى أن المواطن هو الخطر.
أضف تعليقك