أشفق كثيراً على من يطلقون حملات وهاشتاغات استباقية، كلما حان موعد جلسة للنظر في أمر النبلاء المحبوسين ظلماً، داخل سجون النظام في مصر.
مسألة مؤلمة للغاية أن تخاطب خصماً يتفنن في افتراسك كل لحظة، طالباً منه أن يرأف بحال ضحاياه، ثم تتوقع منه استجابة، فيصفعك بأن يمعن في التنكيل بالضحايا الأبرياء، فيجدّد حبس الباحث هشام جعفر، الذي استنفد فترة حبسه الاحتياطي، كما حدّدها دستورهم، ويحكم على المحامي أسامة محمد مرسي بالسجن ثلاث سنوات، بتهمة وجود سكين في مطبخ منزله.
هذا نظام يعتبر القابعين في زنازينه أسرى ورهائن، وليسوا مواطنين يستحقون العدل والحرية، ويمارس ضدهم البطش، وهو يعلم أنه ليس ثمّة ما يردعه أو يوقفه عن توحشه، إن في الخارج، أو في الداخل.
قبل أكثر من أسبوع، كانت جلسة النظر في قضية الناشط علاء عبد الفتاح، واشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بحملة تطلب "الحرية لعلاء"، وانعقدت المحكمة، وقرّرت بقاء الأمر على ما هو عليه. وأمس، كان موعد النظر في الحبس الاحتياطي الذي انتهت مدته، للزميل الباحث والصحافي، الأسير هشام جعفر. وانطلقت حملة محترمة تطلب إخلاء سبيله، لكن القرار صدر بتجديد حبسه 45 يوماً أخرى، ما أوجد حالةً من الحزن والإحباط، أصابت المتطلعين إلى العدل والحرية في بلد يفخر حاكمه بأنه لا يجب أن يتمتع بشيء اسمه حقوق الإنسان.
مشكلة هذه الحملات النبيلة، في ظني، أنها لا تزال تعتقد أن ثمة قضاءً يتحرك ويحكم، بمعزل عن القرار السياسي، أو تتمسّك بوهم اسمه قضاء مستقل، فتتوجه إليه بالخطاب، على الرغم من أن هذا القضاء، نفسه لا يخفي أنه جزء من السلطة السياسية وإرادتها.
مبكراً جداً، قرّر قضاة زمن الانقلاب أن يلعبوا سياسة، ورأيناهم يجاهرون بالحب والكراهية، لهذا الطرف أو ذاك، سواء على صفحات الدردشة الاجتماعية، أو عبر الصحف والفضائيات، ومن هؤلاء القاضي محمد ناجي شحاتة الذي أعلن امتعاضه، وهو جالس على منصة العدل من "أشكال" النشطاء المحبوسين، و"خبط" الشاب أحمد دومة حكما بالسجن ثلاث سنوات على الهواء مباشرة، لأن الأخير تجرأ وسأله سؤالا عن صفحة "فيسبوك" باسمه، وتحمل موقفا سياسيا.
تحدث القاضي نفسه، قبل أكثر من ثلاث سنوات، لصحيفة نشرت حوارا مسجلا معه، أعلن فيه انتماءه السياسي وانحيازه ضد ثورة يناير ورموزها، وعبر عن كراهيته جماعة الإخوان المسلمين، وغيرهم من معارضي الانقلاب، وتحدث بكل ازدراء وإهانة عن أسماء مثل محمد البرادعي "البردعة" كما وصفه القاضي الجليل المهذّب، وعمرو حمزاوي وآخرين، فكيف يمكن توقع أن قضاة من هذا النوع يمكن أن تهزّهم حملات شعبية تطلب منهم الرأفة بمظلوم يقف أمامهم؟
وقبل عامين، أيضاً، انطلقت حملة رافعة شعار "أوقفوا ناجي شحاتة"، وقلت وقتها إن المعضلة ليست في ناجي شحاتة، كماكينة إعدامات، وإنما فيمن يتحكّم في تشغيل هذه الماكينة، ويغذّيها بالوقود، ويتولى صيانتها وحمايتها، ويعيش على ما تحققه من إنتاج.
والحاصل أن السلطة، سياسية وقضائية، ليست مستعدة للتفريط فيما لديها من رهائن وأسرى داخل الزنازين، ومن ثم فإن التوجه إليها بخطاب المناشدة، أو الرجاء بالإفراج عن ضحاياها، قفز على حقيقة محزنة، تقول إنه بالمجمل لا يمكن توقع خير من نظام يفخر بأنه شرير، خصوصاً وهو بات يعرف كيف يشتري ضمير العالم الرسمي، كما جرى في الزيارة الأخيرة إلى "فرنسا الحرة" التي تحولت إلى ما يشبه "السوق الحرة" لبيع مستلزمات تسمين الاستبداد وتجميل الطغيان، لقاء صفقات سلاح، بزعم محاربة الإرهاب، بينما الحرب الوحيدة التي يخوضها النظام هي معركة سحق معارضيه.
كل شيء يجري على الأرض ينطق بأن الحرية تنتزع، ولا تُطلب من المستبدين، أو من المتربحين من الاستبداد، وهذا هو الدرس الذي قدّمته ثورة يناير، حين وضعت رهانها على الناس، فأجبرت العالم على فض يده من دعم طغيانٍ كان يبيع البضاعة ذاتها في أسواق السياسة الدولية.
وأحيلك هنا إلى ما كتبته صحيفة تايمز البريطانية عن دولة عبد الفتاح السيسي، بعد فضيحة مقتل جوليو ريجيني، فكان العنوان "استبداد في القاهرة: مقتل جوليو رجيني يشير إلى العفن الذي ينخر في الدولة المصرية"
والقصد: كافحوا العفن، ولا تطلبوا منه العفو والرأفة.
أضف تعليقك