لا يزال نزيف الدم مستمراً في مصر، ولا يبدو أنه سوف يتوقف قريباً. فقبل يومين سقط نحو 15 شرطياً ما بين ضباط ومجندين في ما أسمته وزارة الداخلية المصرية "اشتباكاتٍ" وقعت في طريق الواحات البحرية (عند الكيلو 135 جنوب غرب مدينة القاهرة) بين قوات للشرطة ومسلحين، في حين تتحدث تقارير إخبارية عن ارتفاع عدد الضحايا إلى أكثر من خمسين قتيلاً، وإصابة العشرات، فضلاً عن اختطاف ضابط شرطة، قيل فيما بعد إنه تم تحريره.
وحتى كتابة هذه السطور، لم تُعرف هوية المسلحين، ولم تعلن أية جماعة تبنيها العملية، والتي تعد الأكثر دموية وعنفاً ضد قوات الشرطة المصرية منذ انقلاب الثالث من يوليو 2013. ومنذ وقوع الحادث، راجت أخبار وتكهنات عن تورط تنظيم المرابطين فيه، وهو تنظيم نشأ وظهر على الساحة الجهادية في مصر منتصف العام الجاري (2017)، بقيادة الضابط السابق في سلاح الصاعقة المصرية، هشام عشماوي. وإذا ما ثبت ذلك، فإنه يعني أن مصر مقبلة على دورة جيدة من العنف الجهادي غير مسبوقة.
الغريب أن عملية قتل الضباط والجنود المصريين في اشتباكات الواحات تمت بشكلٍ يكاد يكون بدائيا من حيث التخطيط والتنفيذ، وهو ما يكشف الفشل الذريع في التعاطي معه. فحسب رواية الداخلية المصرية، فإن العملية جرت بعدما وصلت إليها معلومات عن وجود جماعة مسلحة "ستظل مصر تدور في دائرة العنف والعنف المضاد، ما لم يتم الاعتراف بوجود أزمة سياسية طاحنة" تختبئ في كهوف منطقة الواحات، وتعد للقيام بهجماتٍ على مواقع وأهداف حيوية داخل القاهرة كالأبنية الرسمية والكنائس.. إلخ، لذا تحرّكت قوة من الشرطة، من أجل التصدّي لهذه الجماعة المسلحة التي باغتت الشرطة بالهجوم، قبل أن تصل هذه إلى منطقة اختباء تلك. وتكشف هذه الرواية أن ثمة اختراقاً واضحاً لجهاز الشرطة من المسلحين، وأن ثمة من أبلغ المسلحين بتحرّكات قوات الشرطة، بغرض أن تباغت هي بالهجوم، وهو ما حدث بالفعل، وربما هذا هو سبب ارتفاع عدد ضحايا الهجوم الذي استخدمت فيه أسلحة ثقيلة، منها قذائف صاروخية "آر.بي.جي" وعبوات ناسفة.
يأتي هجوم الواحات عقب أقل من أسبوع من هجوم آخر شنته مجموعاتٌ مسلحة، تابعة لتنظيم ولاية سيناء وسط منطقة العريش، وأسفر عن مقتل ما يقرب من 15 مجندا، وذلك من خلال استهداف عدة كمائن في منطقة كرم القواديس والجورة وبركان 5، وسط مدينة العريش في محافظة شمال سيناء. وهو ليس الهجوم الأول الذي تتعرّض له قوات الشرطة والجيش في مصر، ولن يكون الأخير في ظل دوامة العنف والعنف المضاد التي بدأت قبل حوالى أربع سنوات، ولا تزال تأكل أبناء الوطن.
وإذا ما ثبت فعلياً أن تنظيم المرابطين هو الذي يقف خلف هجوم الواحات، وهو الذي بايع تنظيم القاعدة قبل حوالى عامين، فهذا يعني أن مصر باتت محاصرة بين تنظيميين إرهابيين كبيرين، ولاية سيناء في الشرق، والمرابطين في الغرب. وكلاهما يتمتع بخبرة قتالية واضحة، ولديه أسلحة ثقيلة متطورة، ويبدو أن لديه قدرة تمويلية لعملياته.
ويظل البعد السياسي للعنف الحالي أمراً مهماً في فهم الصورة الكلية للأوضاع في مصر، فمن يتابع بيانات جماعات العنف التي ظهرت على الساحة المصرية خلال العامين الأخيرين يكتشف، بسهولة، العلاقة بين حالة القمع الذي يمارسه النظام الحالي تجاه بعض التيارات الإسلامية وارتفاع معدلات التطرّف والعنف لدى قطاعات من شباب الإسلاميين الذين انخرطوا في الصراع المسلح ضد الدولة ومؤسساتها وشخوصها. فلم تشهد مصر، طوال تاريخها الحديث، هذا الارتفاع في معدل العنف، سواء الذي تمارسه الدولة تجاه خصومها الإسلاميين، "لم تشهد مصر، طوال تاريخها الحديث، هذا الارتفاع في معدل العنف" أو الذي تمارسه الجماعات والخلايا والتنظيمات المسلحة ضد الدولة ومؤسساتها، بما في ذلك عقدي الثمانينيات والتسعينيات اللذين شهدا عمليات مسلحة ضد الشرطة، وبعض السياسيين المصريين والأجانب.
والأنكى إصرار النظام الحالي على التعاطي مع العنف من منظور أمني فحسب، ومن دون وجود رؤية سياسية أو اجتماعية للتصدي له، بل يبدو اقترابه الأمني فاشلاً إلى حد بعيد، كما تدل على ذلك العمليات الإرهابية التي تقع باستمرار ويدفع ثمنها كثيرون. وعلى الرغم من أن هذا الفشل الأمني يظهر النظام بمظهر العاجز عن حماية أفراده ومؤسساته، إلا أنه لا يتوقف عن توظيفه سياسيا، فالحوادث الإرهابية المتكرّرة تدعم سرديته عن محاربة الإرهاب، وتكسبه تعاطفاً داخلياً وخارجياً هو في أمسّ الحاجة إليه، خصوصا في ظل فشله الاقتصادي والاجتماعي. لذا، لا غرابة أن يظل وزيرا الداخلية والدفاع في موقعيهما، على الرغم من فشلهما الذريع في حماية أفرادهما من هجمات الإرهابيين.
ستظل مصر تدور في دائرة العنف والعنف المضاد، ما لم يتم الاعتراف بوجود أزمة سياسية طاحنة، وما لم يتم طرح رؤية سياسية شاملة، تنطلق من مصالحة مجتمعية، تسحب البساط من تحت جماعات العنف، وترفع غطاء المظلومية عنها.
أضف تعليقك