مقارنة واقع فلسطين بواقع دول أخرى تحررت عبر المقاومة السلمية أو "اللاعنف" من أنظمة مستبدة أو احتلال بعض الدول والحكومات لها هي مقارنات لا تخلو من الاجتزاء والعطب؛ ذلك أن الخلل في هذه المقارنات والمقاربات يعود في الأساس إلى خلل في توصيف الحالة الفلسطينية.
في فلسطين نحن نحارب مجتمعا مقاتلًا، معظم أفراده يخدمون في قوات الاحتلال أو خدموا فيها، ولا نقاتل مجرد حكومة ديكتاتورية أو نظام مع مجموعات محدودة من المحتلين والجنود الذين إن فشلوا في حكم الشعب استسلموا له، ذلك أن هدف حكومات الاستبداد أو "الاستعمار" هي ترويض الشعب والسيطرة عليه وعلى مقدراته، أما هدف الصهاينة الذين يحتلون فلسطين هو السيطرة على الأرض بعد طرد الشعب منها، فالمعركة في فلسطين هي معركة وجود لا مجرد معركة انتزاع بعض الحقوق المدنية والسياسية، بل هي لانتزاع الأرض والإنسان.
والبعض يسترشد بما جرى في القدس منتصف العام الحالي من هبة شعبية دفعت الاحتلال للتراجع وإزالة البوابات الإلكترونية من أمام أبواب المسجد الأقصى ليدلل على نجاعة الحراك الشعبي السلمي، وهذه حقيقة، إلا أنه اجتزاء يضيع حقيقة أكبر، فإن كان الحراك الشعبي دفع الاحتلال للتراجع عن بعض خطواته إلا أنه لم يدفع الاحتلال للخروج من الأرض وإعادتها لأصحابها، بل ظل عليها متغطرسًا بقوة السلاح وعاد مجددًا لمشاريعه التهويدية داخل المسجد والتي تمثلت اليوم بتضاعف أعداد اليهود المقتحمين للمسجد.
حتى غاندي الذي يعتبر مؤسس "اللاعنف" في العصر الحديث يقول بأن نظريته لا تصلح دائمًا ولا على طول المدى وكان يرى فيها وسيلة لإحراج الحكومات وفضح ظلمها أمام الرأي العام العالمي لانتزاع الحقوق المدنية وما شابه، لكنه قال أيضًا: أنها قد لا تكون ناجعة دائمًا، وهي لربما تصلح في مواجهة أنظمة ديكتاتورية معنية بالهدوء والتعايش والانسجام لتستمر في حكمها فتضطر للإصلاحات أو التنازل إن فشلت في تطويع الشعب، وربما تخفق الحراكات الشعبية السلمية حتى في مواجهة الأنظمة أو تحقيق الإصلاح.
أما نحن في فلسطين فأقرب ما نكون إلى نماذج حروب التحرير لا مجرد الحركات الإصلاحية الداخلية، وعشرات الثورات التحررية المسلحة نجحت طوال التاريخ منها الجزائرية والفيتنامية والبلشفية والصينية... ومانديلا الذي انتهج في البداية نهج "اللاعنف" تبنى في النهاية المقاومة المسلحة حتى تحررت جنوب أفريقيا من نظام الأبارتايد، جنوب لبنان هو الآخر لم يتحرر سوى بالمقاومة المسلحة، وكذلك سيناء لم يندحر الاحتلال الصهيوني عنها إلا بعد بسالة الجنود المصريين في حرب أكتوبر.
يمنح الاحتلال الصهيوني أولوية مرتفعة للغاية لأجهزته وأنشطته الأمنية ويعتبر الأمن الركيزة الأساسية التي تمنحه البقاء، ودونها الهجرة العكسية وعدم رغبة يهود العالم في القدوم إلى فلسطين فلا شيء يشجعهم على المجيء إن فقدوا ذلك وهم أحرص الناس على الحياة، بل على العكس إن شعر اليهود الصهاينة المحتلين بالخطر فهم يسارعون بالرحيل أو يفكرون بذلك ومن تجليات ذلك رحيلهم عن غزة بعد الانتفاضة الثانية وسلسلة العمليات الفدائية التي استهدفت مستوطناتهم وأفقدتهم الشعور بالاستقرار والطمأنينة فلم يجدوا مناصًا من الهرب.
وبعيد حرب عام ٢٠١٤ ارتفعت نسبة الهجرة العكسية من الكيان إلى خارجه، ورغم التكتم الصهيوني على ما يتعلق بالإحصاءات الدقيقة للهجرة العكسية إلا أن موقع هآرتس الإسرائيلي نشر في مايو الماضي إحصاءً أشار فيه إلى أن قرابة سدس الصهاينة تركوا "إسرائيل"، كما نشر موقع والا العبري أن ٢٧٪ من اليهود الصهاينة يفكرون بمغادرة الكيان الصهيوني، وقال بأن أبرز الأسباب التي تشجعهم على ذلك هو عدم الشعور بالأمن والاستقرار.
بالإضافة إلى الإنجازات المتعلقة بصفقات تبادل الأسرى أو إيقاع الأضرار المختلفة بالاحتلال نتيجة العمليات الفدائية، فإن المقاومة الموسمية أو غير المنظمة ضد البؤر الاستيطانية وتجمعات الاحتلال في الأراضي المحتلة، لها تأثير على المدى المتوسط غير التأثير اللحظي المتمثل بالجرح أو القتل، وكلها مع المقاومة المنظمة تستهدف عمق جذور الكيان، ولذلك أيضًا كان يرى بعض الصهاينة في العمليات الفردية تهديدًا وجوديًا إذا تضاعفت واستمرت لمدى طويل ستدفع المزيد من الصهاينة للهرب من فلسطين.
لا شك أننا نحن الفلسطينيين نعاني من ويلات الاحتلال، لكن المشكلة ليست في المقاومة وإن كان بعض الساقطين يتماهون مع الخطاب الصهيوني، إنما المشكلة في هذا الاحتلال وترسانته العسكرية التي نكلت بشعبنا على مدار سنوات الاحتلال المريرة، فهو إن كان يحاسب الناس في غزة على الصاروخ والرصاصة يحاسبهم في الضفة على الحجر وفي الداخل المحتل على الكلمة ويهدم البيوت ويشرد أصحابها ويعتقل الناس بمبرر وبدون مبرر لأننا أمام مشروع إحلالي توسعي يهدف إلى اقتلاع الإنسان والاستيلاء على الأرض، أما دون ذلك أوهام نخدع أنفسنا فيها، فها هو يتحدث عن سلطة جديدة للمستوطنين في الضفة تقوض السلطة الفلسطينية ويفكر في مشاريع ترحيل جديدة للفلسطينيين في الداخل والضفة.
وهو لم يكن بحاجة لمبررات حين قتل محمد الدرة في حضن والده ولا حين أحرق علي دوابشه في أحضان أمه وأبيه ولا حين هدم مئات المنازل على رؤوس ساكنيها وذبح المصلين في المسجد الإبراهيمي وقصف مشافي على رؤوس المرضى والأطفال في مدارسهم وهدم القرى والأحياء على من فيها، ولم تتوقف مجازره منذ دير ياسين وحتى اليوم، و للمفارقة فإن بعض وجهاء دير ياسين إبان المجزرة رفضوا دخول الفدائيين أو المقاومين للقرية واتفقوا مع العصابات الصهيونية على ذلك ظانين أن هذا الأمر يمنع ذبحهم إلا أنهم كانوا أول الذبائح وكانت مجزرة من أبشع المجازر بالتاريخ.
ناهيك عن أن المقاومة هي بالنسبة للمسلم جهادٌ في سبيل الله، شرعه الله وحث عليه كما حث على إعداد القوة قدر الاستطاعة لمواجهة الأعداء ودفعهم عن ديار المسلمين، ودون ذلك الاستكانة والمهانة والعقوبة والاستبدال، وكنت كتبت مقالةً بعنوان "حوار مع مخذل" تتناول فيها هذا البعد الذي لا يمكن استبعاده من المعركة في حين يستدعي الاحتلال كل الأبعاد دينيًا وجغرافيًا وتاريخيًا وديموغرافيًا في سبيل تعزيز حضوره وسيطرته على الأرض.
ونحن لسنا بحاجة لأن تتوقف المقاومة لنرى إن كان الاحتلال سيكتفي بما ابتلعه من الأرض أم لا، وهو خلال السنوات الأخيرة بعد أن تم القضاء على المقاومة المسلحة بالضفة توسع بشكلٍ كبير وبات يومًا بعد يوم يعلن بناء آلاف الوحدات الاستيطانية، لذلك من يشكك بالمقاومة فإنه يشكك في حقه بفلسطين، ومن يتخلى عنها بأشكالها كافة أو يحاربها فهو يحارب حقه في فلسطين ويريد لنا التدجين وأن نذبح كالدجاج بصمتٍ دون مقاومة ولا صراخٍ أو أنين، ولا عزاء للمتصهينين وأشباه المثقفين، وإن كان الاحتلال يقول ما لا يأتي بالقوة يأتي بالمزيد من القوة فنحن نقول ما لا يأتي بالمقاومة يأتي بالمزيد من المقاومة.
أضف تعليقك