• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بين المفكر التركي الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي، صاحب رسائل النور، والأستاذ محمد مهدي عاكف، المرشد العام السابع لجماعة الإخوان المسلمين، تشابه كبير. أحدهما مارس الدعوة إلى الله في تركيا، والآخر مارسها في مصر، وكل منهما كانت له قصة مع الانقلابات العسكرية والانقلابيين.

النورسي عاصر انقلاب 1909 الذي أطاح بالسلطان عبد الحميد، ورحل قبل انقلاب 1960 الذي أطاح برئيس الحكومة المنتخب عدنان مندريس بأربعة أيام. وعاكف عاصر انقلاب 1952 الذي أطاح بالملك فاروق، وانقلاب 2013 على الرئيس المنتخب الدكتور محمد مرسي. الاثنان ظُلما من الانقلابيين.. إليكم الحكاية باختصار!

(1)

حب للوطن وتضحية من أجله

ولد الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي في عام 1877، ولقي ربه غريبا منفيا ومحاصرا في الثالث والعشرين من (مارس/آذار) عام 1960. وولد المرشد محمد مهدي عاكف في (يوليو/تموز) 1928، ولقي ربه شهيدا في سجون الانقلاب العسكري بمصر في الثاني والعشرين من (سبتمبر/أيلول) 2017.

كافح النورسي الاحتلال الإنجليزي، والغزو الروسي لتركيا، ووقع أسيرا في يد الروس عام 1916 أثناء مقاومته للجيش الروسي هو وطلابه في مدينة (بتليس) التركية، وأرسل إلى أحد معسكرات الأسر في مدينة (قوصترما) شرقي روسيا، وبقي في الأسر لعامين وأربعة أشهر وأربعة أيام.

وقاوم عاكف الاحتلال الصهيوني في فلسطين، والاحتلال الإنجليزي في مصر، سجن عام 1948 لدعمه للمجاهدين في فلسطين، وأودع مع أربعمئة طالب في سجن (الهاكستب)، ثم رحلوا إلى سجن (الطور) حيث أقاموا مع الإخوان الذين تم اعتقالهم عقب عودتهم من فلسطين، وكان من بينهم الشيخ يوسف القرضاوي والشيخ محمد الغزالي والشيخ الشهيد محمد فرغلي وغيرهم.

وأشرف عاكف على معسكرات تدريب المصريين على حمل السلاح لمقاومة الإنجليز الذين انسحبوا من القاهرة وتمركزوا في معسكراتهم في مدن القناة، لكن عاكف ورفاقه من الفدائيين المصريين استمروا في المقاومة حتى أجبروا الإنجليز على الانسحاب.

(2)

السجن لثمانية وعشرين عاما

عاش النورسي ثلاثة وثمانين عاما، وعاش عاكف تسعين عاما، قضاها كل منهما في طاعة الله والدعوة إليه والجهاد في سبيله.

قضى النورسي ثمانية وعشرين عاما سجينا أو منفيا في مدن تركية مختلفة، وحرم من لقاء إخوانه وتلامذته لسنين عديدة. وكذلك سجن عاكف لثمانية وعشرين عاما أيضا!، في عهد الملك فاروق الفاسد لشهور، وفي زمن عبد الناصر والسادات لعشرين عاما، وفي زمن مبارك لثلاث سنوات، وأخيرا في زمن الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال السيسي على نظام الرئيس المنتخب محمد مرسي لأربع سنوات وبضعة أشهر.

(3)

نفي وحصار!

لقي النورسي ربه في مدينة (أورفة) التي سافر إليها من مدينة (إسبارطة) حيث كانت إقامته الجبرية، وكان مريضا، وعندما علم رجال الأمن هناك بوصوله طلبوا عودته مرة أخرى رغم علمهم بمرضه الشديد، وأصروا على ذلك وهم يرون الشيخ في النزع الأخير من عمره.

استدعى تلامذته طبيب المستشفى ليعاينه في غرفته بالفندق، وكتب تقريرا يقول إن حالة الشيخ لا تسمح بالسفر لأنه يعيش بين الحياة والموت، وحرارته وصلت إلى الأربعين درجة، لكنهم شددوا على ضرورة إعادته ولو في سيارة إسعاف!!

يدخل مدير الأمن على النورسي في غرفته طالبا منه المغادرة إلى مدينة (إسبارطة) التي حددت فيها إقامته، ليرد النورسي عليه بقوله: إنني الآن في الدقائق الأخيرة من عمري، لا أستطيع الرجوع إلى (إسبارطة)، وقد أموت هنا... إن وظيفتك الآن هي تهيئة الماء لغسلي بعد الوفاة.

يخرج مدير الأمن وضباطه من غرفة الشيخ مطأطئي الرؤوس لكنهم لا يريدون عصيان الأوامر التي جاءتهم من فوق، من وزارة الداخلية حسب قولهم لتلامذة الشيخ! وفي هذه الأثناء فاضت روح الشيخ في يوم الأربعاء الخامس والعشرين من رمضان الموافق للثالث والعشرين من (مارس/آذار) 1960م.

ولقي عاكف ربه شهيدا في سجون الانقلاب العسكري في مصر بعد مرض عضال استمر لشهور، وسمحوا له بالعلاج في السجن على نفقة أسرته، لكنه في الحقيقة كان محبوسا انفراديا، لا يرى إلا حراسه، ولم يكن يتلقى العلاج، إذ كان أحيانا ينتظر لساعات حتى يسمح الحراس للممرضة بالدخول عليه كي تغير من وضع السرير، أو تعطيه شيئا يسكن آلام المرض!!

يتجمع تلاميذ النورسي ومحبوه أمام المستشفى، ويحملون جثمانه الطاهر، ويشيعونه تحت هطول الأمطار ليوارى تحت الثرى في مقبرة (أولو جامع) بمدينة (أورفة).

(4)

يخافون النورسي في قبره!

بعد دفنه بأربعة أيام يحدث الانقلاب العسكري على حكومة عدنان مندريس المنتخبة، وصاحبة الأغلبية البرلمانية، والتي كان النورسي قد صوت لها في الانتخابات رغم مرضه. يحاكم عدنان مندريس أمام ما أسموها (محكمة الدستور)! وتنتهي المحاكمة بإعدام مندريس واثنين من وزرائه، والحكم بسجن بقية الوزراء والمسؤولين بمدد مختلفة. بعدها بشهور قليلة توجه والي (أورفة) مع القائد العسكري للقطاع الشرقي في تركيا على متن طائرة عسكرية إلى مدينة (قونية).

وفي يوم 11 من (يوليو/تموز) يتم استدعاء شقيق النورسي -الشيخ عبد المجيد- إلى قصر الوالي في (قونية). استقبله الوالي وثلاثة من الجنرالات العسكريين، ودون مقدمات أعطوه ورقة مكتوبة قائلين له: إن زوارا كثيرين من المناطق الجنوبية والشرقية يأتون لزيارة قبر أخيك، وأنت تعلم أن البلاد تمر بظروف دقيقة، لذا سنقوم بنقل رفات أخيك سعيد من (أورفة) بناء على طلب افتراضي منك. يرد الشيخ عبد المجيد: لكنني لم أطلب ذلك! يقولون له: لا تكثر الكلام، وقع على الورقة. يتوسل إليهم قائلا: أرجوكم اتركوا أخي مستريحا -على الأقل- في قبره، لقد قضى حياته بين سجن ونفي وتعب ومكابدة. تعلوا نبرتهم بتهديد ووعيد: ليس لدينا وقت، قضي الأمر، نفذ ما نأمرك به. يوقع الشيخ ويده ترتعش، ودموعه تنهمر على خديه!!

ويضيف الشيخ عبد المجيد: بعد توقيعي اصطحبوني إلى المطار حيث أقلتنا طائرة عسكرية إلى (أورفة)، وهناك توجهنا إلى بناية عسكرية، وفي الثالثة صباحا ذهبنا إلى المقبرة وأنا في حالة نفسية صعبة. هناك اقترب مني طبيب عسكري مواسيا لي ومخففا عني بقوله: لا تقلق.. سننقل رفات الأستاذ إلى الأناضول.  وعندما سمعت منه هذا القول أجهشت بالبكاء. نادى الطبيب العسكري على الجنود، وأمرهم بنبش القبر، قائلا لهم: سننقل الشيخ من هذا القبر إلى ذاك التابوت الذي أحضرناه. لكن الجنود الذين لم يكونوا يعرفون مهمتهم المطلوبة من قبل خافوا، وقالوا: لا نستطيع، الله سيسخط علينا!!

عاد الطبيب مستعجلا لهم: يا إخواني هذه أوامر لا بد من تنفيذها بسرعة. نفذ الجنود الأمر ونبشوا القبر وأخرجوا أخي. اقتربت منه وقلت في نفسي: لا بد أن عظام أخي قد تحولت الآن إلى تراب، تحسست الكفن فخيل إليّ أن أخي كأنه مات بالأمس! كان الكفن سليما، به اصفرار بسيط جهة الرأس، وبقعة صغيرة كأنها قطرة ماء. وعندما كشف الطبيب العسكري عن وجهه رأيته باسما!

احتضنا أخي المظلوم ووضعناه في التابوت المعد للنقل، وحشونا التابوت حول الجثمان بالأعشاب، وبعدها ذهبنا إلى المطار قبل الفجر. كانت الشوارع خالية من الناس، ومليئة بالجنود المسلحين، حيث فرض حظر التجوال على سكان المدينة.

وصلنا إلى المطار فقام الجنود بحمل التابوت ووضعوه في طائرة عسكرية، وصعدت إلى الطائرة التي أقلعت إلى مدينة (آفيون) بصحبة قوة عسكرية مدججة بالسلاح، ومن مطار (قونية) نقل التابوت في سيارة إسعاف إلى مدينة (إسبارطة) حيث دفن في مكان غير معلوم! 

(5)

ويدفنون عاكف سرا

أما المرشد محمد عاكف الذي ظل يعاني لسنوات من المرض، ولم تأخذ الانقلابيين به رحمة أو شفقة. بعد الانقلاب الذي قام به السيسي ورفاقه من العسكر في (يوليو/تموز) 2013 بدعم إقليمي وأميركي، أقدم العسكر على اعتقال الرئيس مرسي وقيادات من الحكومة والإخوان المسلمين كان من بينهم عاكف.

تم إيداع عاكف بسجن (العقرب) لمدة ثلاث سنوات في زنزانة تحت الأرض، ليس فيها أي شيء من مقومات الحياة، حتى التهوية تكاد تكون مفقودة، حرموه من الدواء، أو الغذاء الصحي. أصيب الرجل بعدة أمراض، ولما اشتد عليه المرض في بداية عام 2017، وكادت روحه أن تزهق، سمحوا له بالعلاج على نفقة أسرته الخاصة.

عاش عاكف المسن الضعيف في غرفته المحبوس بها على ذمة العلاج دون مرافق، ليسقط ذات مرة فيكسر حوضه ويلزم الفراش، ويأتيه بعض الضباط الموفدين من قبل الانقلاب يظهرون له التعاطف مع حالته الصحية، ويقترحون عليه أن يكتب التماسا لقائد الانقلاب الجنرال عبد الفتاح السيسي يطلب منه الإفراج الصحي على ذمة القضية -الظالمة- المتهم فيها، لكن عاكف يقول لهم: "لم أفعلها وأنا شاب صغير عندما حكم عبد الناصر عليّ بالإعدام ظلما عام 1954، وطلبوا مني التماس العفو أو تخفيف الحكم فرفضت، فهل تتصورون أن أفعلها وأنا شيخ في التسعين أنتظر لقاء ربي في كل لحظة؟!"

ماذا أقول لأبنائي من شباب الإخوان إذا قدر الله لي لقاءهم، وكيف أقابل ربي بهذه الفعلة؟! هكذا قالها من قبله سيد قطب عندما حكموا عليه بالإعدام عام 1966، وجاءه ضابط كبير يتعهد له بإجابة طلبه إذا ما التمس من عبد الناصر إلغاء الحكم أو تخفيفه، لكن قطب رد بقوله: "إن إصبع السبابة التي تشهد إلى الله بالوحدانية لتأبى أن تقر الظالم على ظلمه".

تفيض روح عاكف إلى بارئها صباح الجمعة الموافق الثاني والعشرين من (سبتمبر/أيلول) الماضي، لكن وزارة الداخلية لم تبلغ أسرته بالخبر إلا في المساء، حتى لا يتجمع محبوه، وتمنع أي أحد من أسرته أو إخوانه من الاقتراب من جثمان الفقيد. 

تطلب أسرته من مسؤولي الأمن أن يقوم أحد رفاق الشهيد بغسله وتكفينه لكنهم يرفضون، وبعد مساومة يوافقون على قيام أحد شباب الأسرة بهذه المهمة. يرفض رجال الأمن الصلاة على الشهيد في أحد مساجد القاهرة، فيصلي عليه في المستشفى ذلك الشاب الذي غسله، ومعه زوجة الشهيد وابنته...

رجال الأمن يرفضون أن يمشي أحد في جنازته، ويأخذون الجثمان في منتصف الليل، وسط أرتال من المصفحات والمدرعات والجنود المدججين بالأسلحة، ليدفن في الواحدة صباحا، ولا يصلي على قبره إلا زوجته وابنته وحفيده ومحاميه، أربعة فقط، في مشهد يعيدك إلى مشهد استشهاد مؤسس الإخوان المسلمين، الإمام حسن البنا، الذي قتل عام 1949م، ومنع الناس من الخروج في جنازته، وحمل جثمانه والده وثلاث نساء!

دفن عاكف إلى جوار المرشدين السابقين عمر التلمساني، ومحمد حامد أبو النصر، ومصطفى مشهور. ومنعت وزارة الأوقاف صلاة الغائب عليه في أي مسجد من مساجد مصر، لكن الصلوات أقيمت عليه في دول كثيرة حول العالم.

(6)

النورسي وعاكف أحياء في قبريهما!

بعد أسبوع من مشاركتي في مجلس عزاء أقيم للشهيد عاكف بمدينة إسطنبول شاركت فيه وفود من عدة دول عربية وإسلامية، دعيت إلى المشاركة في مؤتمر عالمي -عُقد في المدينة نفسها- عن الإمام النورسي في الفترة من 1 - 3 (أكتوبر/تشرين الأول) الجاري.

شارك في المؤتمر شخصيات كثيرة وفدت من دول عديدة جاءت تناقش رسائل النور التي ورّثها الإمام النورسي لتلامذته حول العالم، وما تضمنته من دعوة إلى العمل الإيجابي البنّاء في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية.

احتشد الآلاف في الجلسة التي عُقدت بمركز خليج إسطنبول للمؤتمرات، وتحدث في هذه الجلسة رئيس مؤسسة إسطنبول للثقافة والعلوم، السيد سعيد يوجا -عضو حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، وعضو مجلس الشعب-، وتحدث فيه أيضا السيد بلال أردوغان نجل رئيس الجمهورية التركية، إضافة إلى عدد كبير من المتحدثين الذين وفدوا من قارات الدنيا الست!

سرحت بخيالي، وطفت بنظري في أرجاء القاعة التي اكتظت بعلماء ومفكرين وسياسيين، برجال ونساء، بشباب وفتيات، جمعهم الحب والتقدير والاحترام للأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي.

قلت لنفسي: هذا المؤتمر يُعقد بعد سبعة وخمسين عاما من رحيل النورسي الذي اختطفه الانقلابيون الأتراك ودفنوه في مكان مجهول لا يعرفه أحد حتى اليوم، ومع ذلك حضر كل هؤلاء لينهلوا من فكر الرّجل ورسائله الإيمانية.

وها هو مرشد الإخوان السابع محمد مهدي عاكف يدفنه الانقلابيون خلسة في الواحدة بعد منتصف الليل دون السماح لأحد بالسير في جنازته، فإذا بالله سبحانه يُعلي ذكره، وتخرج له جنازات، ويُصلّى عليه في كبريات مساجد العالم، من المسجد الأقصى في القدس الشريف، إلى جامع الفاتح في إسطنبول، إلى ساحات المساجد في العديد من العواصم والمدن حول العالم.

صدق القائل:

الناس صنفان: موتى في حياتهم          وآخرون ببطن الأرض أحياء

سيبقى الذكر الطيب للنورسي وعاكف والبنا وقطب، كما بقي لأحمد بن حنبل وتقي الدين بن تيمية وغيرهم من العلماء والدعاة العاملين الذين عاشوا لله وأخلصوا له، وماتوا في سبيله سبحانه. أين الذين نكّلوا بهؤلاء الأعلام.. هل يذكرهم أحد؟!

أضف تعليقك