• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

لم تكن وفاة الشهيد الإمام  محمد مهدي عاكف في سجون الانقلاب و قد اقترب عمره من التسعين عامًا مفاجأة لأحد وأزعم أنه رحمه الله كان يعلم منذ التحاقه بدعوة الإخوان وهو ابن الثانية عشرة من عمره أن الطريق التي سيسلكها سوف تفضي به إلى الشهادة. الذين قرأوا سيرة الإمام يعرفون ذلك جيدا من تاريخ جهاده ونضاله سواء ضد المحتل الصهيوني أو الإنجليزي أو الاحتلال الوطني المعروف اختصارًا بحكم العسكر.

عاش الإمام عاكف قرابة ثلث عمره خلف القضبان ولكنه كان في السجن كما كان خارجه قويا لا يضعف، كبيرا لا يصغر، كريما لا يهان، وحين خرج إلى الحياة بعد سجنه الطويل في سجن عبد الناصر كان أكثر صلابة ممن سجنوه، وأكثر جرأة من كل الذين حاجوه. خرج من سجنه إلى الدنيا الواسعة فأدار الندوة العالمية للشباب الإسلامي وهي لمن لا يعرف مؤسسة سعودية إسلامية معنية بتربية الشباب وكانت في فترة وجوده ندوة حقيقية لصناعة الشباب المسلم سواء في المملكة أو خارجها.

وجد الإمام عاكف أن الاسلام المحبوس في مصر يمكن أن يكون حرا خارجها ، وبالفعل انطلق بروح الشباب وهو في بداية الستينيات وفي عصر مبارك عاد لمصر نائبا في البرلمان ، وعادت معه الحيوية والنشاط كما لو كان في الثلاثينيات من عمره.

كان الإمام رحمة الله عليه صاحب مبادرة لا ينتظر التعليمات وإن جاءته التزم بها كأفضل ما تكون الجندية، ولما وقع عليه الاختيار ليكون مرشدًا عامًا للإخوان المسلمين آلى على نفسه أن يكون صاحب شخصية متميزة وأن تكون فترة ولايته تعبيرا عن شبابه الذي قضى جزءا منه خلف القضبان.

شعر الإمام عاكف أن الإخوان بحاجة ماسة للالتحام بالمجتمع بكل طبقاته، ورأى أن التقوقع سياسة مفروضة على الإخوان وهي سياج من حديد لابد من إزالته وإن بدت كقفازات من حرير قد تغري بارتدائها.

كان الإمام عاكف يرى أن الإخوان لديهم رصيد هائل وخبرات متراكمة تمكنهم من الاشتباك مع الناس في النقابات وفي الأحزاب وفي الشارع بشكل عام ، ولكن تنقصهم الإرادة خشية الذوبان وهو ما كان يعتقد الإمام عاكف عكسه إذ كان يرى ومعه بعض رموز الإخوان أن الإخوان لديهم ما يقدمونه للناس وبالتالي فلا خشية عليهم من المجتمع وقد ثبتت صحة ما ذهب إليه رحمة الله عليه. 

لذا كان صوته مرتفعا واسمه موجود في كافة الحركات السياسية التي تشكلت سواء حركة "كفاية" التي دعا إليها جورج إسحاق قبل أن يرتد على عقبيه ويؤيد الانقلاب، أو الجبهة الوطنية للتغيير التي نادى بها نخبة من الساسة ومن بينهم محمد البرادعي قبل أن يحصل على منصب نائب الرئيس للشؤون الخارجية كثمن لتأييده للانقلاب بعد ذلك.

انطلق الإمام عاكف وعلى عكس معظم مرشدي الإخوان متفاعلا مع وسائل الإعلام ورغم ما في ذلك من مخاطر لعل أشهرها الفخ الذي نصب له في حواره مع الصحفي اليساري سعيد شعيب لصحيفة ناصرية حين قام بتسريب كلمة "طظ" الشهيرة مجتزأة من سياقها ولم تكن أصلا ضمن الحوار المنشور في الصحيفة وقتئذ.

عبر الإمام عن رغبته في يتحول ملف الحديث عن الإخوان المسلمين من ملف تديره مؤسسة الجماعة إلى ملف يديره أعضاء الجماعة وليس مكتب الإرشاد، وقد عارضه بعض قيادات مكتب الإرشاد ودخل معهم في حوارات طويلة وربما حدث نزاع بينهم ، وربما حاول البعض تقليص صلاحياته ولكنه في النهاية كان مصرا على أن عصره لا بد أن يكون عصر الانفتاح لا الانغلاق، والاشتباك مع الآخر وليس تجنبه، وتفويض الصلاحيات وليس اكتنازها.

كان رحمة الله عليه يرى أن العمل السياسي حق أصيل للمنتمين للتيار الإسلامي عموما وللإخوان على وجه الخصوص، لذا وفي أثناء ولايته ترشح أكبر عدد من المرشحين الإخوان أو من دوائر محبيهم، وفي عهده دخل البرلمان 88 عضوا من الاخوان وهو أكبر عدد في تاريخ الجماعة السياسي على امتداده ، وكان من الممكن أن يزيد العدد لولا سماح الإدارة الامريكية للرئيس المخلوع مبارك بتزوير الانتخابات بناء على توصية من الصهيوني الهالك شارون للرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن بأن استمرار الانتخابات بدون تزوير يعني حصول الإخوان على أكثر من ثلث أعضاء البرلمان ما قد يمكنهم من تعديل الدستور لاحقا.

أحدث الإمام عاكف دويا كبيرا في حياته ودويا أكبر عند مماته فقد حاصرته قوات  الاحتلال العسكري الوطني مريضا رغم كبر سنه وكهولته، ومنعت عنه الدواء لفترة وسمحت به لما علمت بانتشار المرض في خلايا جسمه و قرب دنو أجله، لكنها منعت الصلاة عليه وهو بين يديها جثة هامدة ، وقررت دفنه ليلا دون أن يراه أهله، ثم زادت الطين بلة حين قرر وزير أوقافها مختار جمعة عدم السماح بصلاة الغائب على روحه الكريمة في أي مسجد إلا بعد الاستئذان ، ثم وبعد دفنه وبعد أن رأت السلطة العميلة كيف أحبه الناس وصلوا عليه في مشارق الأرض ومغاربها قررت السلطة أن تشن عليه حملة وهو بين يدي ربه، فخرج مانشيت إحدى صحف الانقلاب تكتب عن موت السفاح ، ولا أدري هل تعبر هذه الصحف عن إرادتها أم إرادة العدو الصهيوني الذي قاومه عاكف في بواكير حياته أم عن المحتل الإنجليزي الذي تصدى له عاكف وهو في ريعان شبابه.

عاش قرابة تسعين عاما وختم حياته بالشهادة في سجون أعداء الإنسانية لكنه كان إنسانا رائعا وفوق الوصف وأكبر من كل كلمات وعبارات المديح والثناء.

لقي الإمام عاكف ربه شهيدا ليقيم الحجة على الجميع، السلطة في جميع مراحلها، والمجتمع بكل مكوناته ، والإخوان بكل مؤسساتهم.

 

تركة الإمام عاكف تتلخص في كلمات ترجمها لأفعال، هي الحرية والشفافية والشجاعة والكرامة والإنسانية.

أضف تعليقك