سادت حالة من الصدمة على أروقة حكومة الانقلاب في أعقاب نشر وكالة "رويترز" نبأ حجب الولايات المتحدة نحو 100 مليون دولار من المساعدات الاقتصادية والعسكرية لنظام السيسي، وتأجيل تسليم 200 مليون "في انتظار تحسن في مجال حقوق الإنسان واتخاذ إجراءات تخفف من القيود المشددة على منظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية".
ولا يتوقع أن يتم طي صفحة اهتزاز العلاقة بين أمريكا ونظام العسكر في مصر بناء على هذا التطور المفاجئ، الذي ربما يمكن اعتباره بمثابة "الإنذار الأولي" من الإدارة الأمريكية للقاهرة، من دون أن يكون الرئيس دونالد ترامب موافقا بالضرورة على الخطوة بناء على ما هو معروف من اختلافات أو خلافات بين الطرفين حيال عدد من القضايا الخارجية.
وأعلنت خارجية الانقلاب ضمنيا صحة النبأ، بإصدارها بيانا يشجب القرار الأمريكي ويحذر من تداعياته السلبية على العلاقات الثنائية، ويدعو واشنطن إلى ما وصفه بعدم "خلط الأوراق وإتباع نهج يتسم بعدم الفهم الدقيق لأهمية استقرار مصر ونجاح تجربتها".
وقال مصدران في مجلس وزراء الانقلاب ومصدر ثالث في وزارة الخارجية، لصحيفة "العربي الجديد"، إن القرار الأمريكي فاجأ نظام السيسي، وإن حالة من الاطمئنان كانت تسود في الأوساط الدبلوماسية والعسكرية وقصر الرئاسة إزاء مطالبات أعضاء في الكونجرس الأمريكي في يوليو الماضي بالضغط على مصر عبر تقليص أو تجميد أموال المساعدات العسكرية والاقتصادية.
وأضافت المصادر أن الاطمئنان المصري كان نابعا بشكل أساسي من تفسير السيسي لأسلوب حديث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب معه خلال اللقاء "الودي والدافئ" الذي جمع بينهما على هامش القمة العربية الإسلامية الأمريكية بالرياض، نهاية مايو الماضي، والذي تبين فيه للسيسي أن ترامب لا يضع حقوق الإنسان أو المجتمع المدني على رأس أولوياته في التعامل مع مصر.
وأوضحت المصادر أن السيسي اعتبر حديث ترامب بمثابة ضوء أخضر لإصدار قانون العمل الأهلي الجديد الذي أثار عاصفة انتقادات من جانب نشطاء المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية، فأصدره بعد ساعات معدودة من لقائه بترامب، رغم مرور 6 أشهر على إقراره من قبل برلمان العسكر، و5 أشهر على تلقيه تحذيرات من حكومات أوروبية من مغبة إصدار هذا القانون الذي لا يقيد فحسب عمل المنظمات المصرية، بل يسلط رقابة حكومية وأمنية واستخباراتية غير مسبوقة على أعمال منظمات المجتمع المدني الأجنبية.
واتفقت المصادر على سيناريو واحد لما حدث بين إصدار ذلك القانون وبين قرار تجميد المساعدات، مفاده أن "السيسي فهم حديث ترامب بشكل خاطئ، وتجاهل تحذيرات محلية وغربية له بالتروي في إصدار القانون، أو بمراجعته وإخضاعه لمزيد من الحوار المجتمعي قبل إصداره وتطبيقه على المنظمات المصرية والأجنبية، وأن السيسي تصور أنه قدم لترامب كل ما يحتاجه في هذا الإطار بعد الإفراج عن الناشطة الحقوقية المصرية ــ الأمريكية آية حجازي، والسماح بسفرها إلى الولايات المتحدة في أبريل الماضي واجتماع ترامب بها في البيت الأبيض، وهو ما منح ترامب شعبية كان يحتاجها في وقت عصيب".
وربما يكمن الخطأ الرئيس في تجاهل وجود اختلاف في وجهات النظر وطريقة العمل بين البيت الأبيض من جهة، ووزارة الخارجية من جهة ثانية، وهو ما ينعكس في عدد كبير من الملفات، بدءا من الأزمة الخليجية مرورا بالتوتر الكوري والتعاطي مع روسيا. وقد وصل الخلاف أو الاختلاف بين الوزارة والبيت الأبيض إلى حد نشر مقالات لا تستبعد استقالة قريبة للوزير ريكس تيلرسون.
ونبهت المصادر على أن الأوساط الرسمية في القاهرة كانت تتعامل مع واشنطن طوال الفترة الماضية على "خلفية من الثقة المتبادلة، التي صورتها تحركات السيسي وترامب، ما شجع خارجية الانقلاب على أن تطلب من نظيرتها الأمريكية في يوليو الماضي أن تتدخل لتعطيل عمل المنظمات والمؤسسات الأمريكية المانحة لمنظمات المجتمع المدني غير الحكومية في مصر، بحجة وجوب توفيق أوضاع المنظمات المصرية أولاً مع قانون العمل الأهلي الجديد".
وكشف المصدر الدبلوماسي أن خارجية الانقلاب لم تتلق ردا على هذه المطالبة من واشنطن، ما تم تفسيره في حينه بأنه (عدم اعتراض)، وخصوصا أن بعض المنظمات الأمريكية أخطرت بعد ذلك حكومة الانقلاب ممثلة في وزارة التضامن الاجتماعي بوقف تمويل عدد من المشروعات والجمعيات المصرية غير الرسمية وكذلك المراكز البحثية والمعاهد، وهو ما فسرته القاهرة بـ(استجابة أمريكية) للمطالبة المصرية، وتسليما أمريكيا بوجوب احترام قانون العمل الأهلي.
وأردف المصدر الدبلوماسي قائلا: "الأزمة الحالية تكشف سوء أداء وزارة الخارجية وعملها بشكل كامل في ظل الرئاسة، رغم أنه من الواجب عليها أن تكون القاطرة التي تحرك العمل الدبلوماسي المصري، وليس أي جهة أخرى".
ويضيف المصدر أن "السيسي لم يستطع على ما يبدو فهم اتجاهات ترامب جيدا، فهو لن يضغط كثيرا لمراعاة حقوق الإنسان، لكنه سيسعى بالتأكيد لإرضاء جماعات الضغط المؤثرة حول الحزب الجمهوري"، مذكرا بأن واشنطن لا زالت متهمة بمخالفة القانون المصري في قضية التمويل الأجنبي للمجتمع المدني، التي يتم التحقيق فيها حاليا، من خلال المعهدين الجمهوري والديمقراطي اللذين صدر حكم بحل فرعيهما في مصر عام 2012.
ونوه المصدر إلى أن المعلومات الواردة من الأوساط الأمريكية منذ زيارة السيسي إلى واشنطن في أبريل الماضي، تؤكد متابعة دوائر مختلفة داخل الحزب الجمهوري لمجريات قضية التمويل الأجنبي، وأن بعض المسئولين في وزارة الخارجية لم يظهروا تساهلا في السؤال عن تبعاتها، ما يؤكد أن وضع حقوق الإنسان وحرية عمل المنظمات ما زالت لها أولوية في السياسة الأمريكية بغض النظر عن موقف ترامب الشخصي.
وفي سياق متصل يؤكد حالة "الثقة الموهومة" التي كانت تسيطر على نظام الانقلاب، قالت مصادر برلمانية مصرية شاركت في الوفد البرلماني الذي زار الولايات المتحدة، نهاية يونيو الماضي، إن "أعضاء الكونجرس الذين التقيناهم وقتها أكدوا لنا أنه سيكون هناك تحرك من جانهم ردّا على إصدار قانون الجمعيات الأهلية ، متجاهلا انتقادات منظمات المجتمع المدني له".
وفجرت المصادر مفاجأة بقولها: "أبلغنا تلك الرسائل لجهات عليا في الدولة فور عودتنا من أمريكا، لكن مسئوليها طمأنونا، وأكدوا لنا أن هذه التحركات ليست لها قيمة، وأن السيسي نسق مع ترامب قبل إصدار هذا القانون وأن مصر تؤمّن مصالح أمريكية معتبرة لا يمكن لواشنطن المغامرة بها حاليا".
وتعليقا على هذه المستجدات، توقعت مصادر سياسية حزبية أن ينعكس القرار الأمريكي على الوتيرة التي كانت تمضي بها خطوات إجراء التعديل الدستوري لإطالة فترة ولاية السيسي أو إلغاء الانتخابات الرئاسية المقبلة في ظل الانقلاب العسكري المقررة في يونيو 2018.
فعلى الرغم من أن هذا الموضوع لا يثير قلق الإدارة الأمريكية، إلا أن القرار سيجبر السيسي على التروي قبل اتخاذ خطوات سيتم وصفها في الإعلام العالمي كـ"مزيد من القيود على المجال العام".
ورجحت المصادر أيضا أن يطيل السيسي فترة التحقيق والتجميد الإعلامي لقضية التمويل الأجنبي، وأن تبادر الحكومة قبل نهاية العام الحالي لإجراء تعديل – ولو صوري - على قانون العمل الأهلي، لتخفيف القيود على عمل المنظمات الأجنبية.
ويرى مراقبون أن القانون يحدّ من نشاط الجمعيات الأهلية، ويوجهها فقط للأهداف التنموية التي تحتاجها حكومة الانقلاب.
ويتضمن القانون عقوبات قاسية جدا في حال مخالفته، وهو ما تعترض عليه جماعات حقوق الإنسان.
كما يحظر القانون الجديد على المنظمات القيام بأعمال ميدانية أو استطلاعات رأي أو التعاون مع أي هيئات دولية من دون الحصول على الموافقات التي يحددها جهاز جديد نص عليه القانون مسئول عن متابعة الجمعيات الأهلية، وهو جهاز يضم أجهزة أمنية رفيعة المستوى بينها الأمن الوطني والقومي والمخابرات العامة، بدلا من وزارة التضامن الاجتماعي التي كانت مسئولة عن تلك الموافقات في القانون السابق.
وأصدرت العديد من المنظمات الحقوقية المصرية بيانات دعت فيها للضغط على حكومة الانقلاب لوقف إصدار القانون، ثم لتعديله، وذكرت بعض تلك البيانات أن إصدار القانون يأتي في إطار أسوأ حملة لغلق المجال العام وتقييد الجمعيات الأهلية في تاريخها، كما أنه يقوض الحريات التي اكتسبت بعد ثورة 2011 التي أنهت حكم الرئيس المخلوع حسني مبارك.
وكتبت الناشطة المصرية آية حجازي، التي أفرج عنها السيسي بطلب من ترامب، مقالاً قبل يومين في صحيفة "واشنطن بوست"، دعت فيه الإدارة إلى حجب المساعدات التي تقدمها واشنطن إلى القاهرة وربطها بإحراز تقدم في مجال حقوق الإنسان.
وقالت خارجية الانقلاب في بيانها المعارض للإجراء الأمريكي، إن مصر تقدّر أهمية الخطوة التي تم اتخاذها بالتصديق على الإطار العام لبرنامج المساعدات لعام 2017، مضيفة أنها "تتطلع لتعامل الإدارة الأمريكية مع البرنامج من منطلق الإدراك الكامل والتقدير للأهمية الحيوية التي يمثلها البرنامج لتحقيق مصالح الدولتين، والحفاظ على قوة العلاقة في ما بينهما، والتي تأسست دوما على المبادئ المستقرة في العلاقات الدولية والاحترام المتبادل".
وعقب بيان الخارجية، تم الإعلان عن إلغاء لقاء مرتقب، بين سامح شكري وزير خارجية الانقلاب، ووفد أمريكي برئاسة جاريد كوشنير، كبير مستشاري الرئيس الأميركي دونالد ترامب وصهره، قبل أن يتم الإعلان عن أن عبد الفتاح السيسي هو الذي التقى الوفد الذي يضم إلى جانب كوشنير، جيسون جرينبلات، المساعد الخاص للرئيس الأميركي والمبعوث لمفاوضات السلام الفلسطينية الصهيونية، ودينا باول، نائب مستشار الأمن القومي للشئون الإستراتيجية.
أضف تعليقك