في هذه الذكري تلح علينا أسئلة من قبيل الأسئلة الوجودية الكبرى: الحق في مواجهة القوة الغاشمة، الأريحية في مواجهة النفعية، المثالية في لقاء الواقعية. لمن الغلبة ؟ وأي الحزبين يجدر بنا الانضواء تحت لوائه؟ هل ينبغي الانحياز إلى ما يمليه الضمير وترضاه الأريحية علي حساب الظفر والمنفعة؟
إذا كان ينبغي ذلك فما أشقانا نحن أبناء الفناء،بينما نحس في أعماقنا بلزوم وحي ضمائرنا و نشعر بالقدر ذاته بوجوب المكافأة على متابعتها فيما تملية علينا -نصطدم على أرض الواقع بضرورة البذل لحساب الضمير بغير منفعة عاجلة.
ماذا يكون مصير القضايا العادلة لو اتفق أن لم يكن لها قوة تذود عنها؟ أنتركها إلى مصيرها المحتوم؟ ولن نسلم حينها من وخز الضمير. أم نقف في صفها؟ وخسارتنا نصب أعيننا؟
لا شك هي أسئلة من الأهمية بمكان، وهي من الواقع في الصميم، وأنت لك أن تكون واقعيا في إجابتك على هذه الأسئلة ولكنك لن تكون كذلك إذا أنكرت الواقع الملموس، وهو أنه لا يخلو زمان ممن لا يبالون شيئا بهذه الأسئلة، شهداء بطبيعتهم، لا يحسبون الأمور بمنطق الربح والخسارة، فما هو إلا أن تتبين وجهة الحق حتى يمضوا فيها غير آبهين إلا بما تمليه عليهم ضمائرهم.
أذكر بهذا الصدد مقولة لبرنارد شو : الرجل المعقول يوفق بين نفسه و بين العالم، والرجل غير المعقول يحاول ان يوفق بين العالم و نفسه،و من ثم كان التقدم كله في العالم مرهونا بغير المعقولين.
يتساءل احدهم قائلاً: ألم تكن تكلفةً باهضةً تلك التي تكبدها المتظاهرون العزل في ميدان رابعة في مواجهة القوة المسلحة؟ ألم تكن مواجهة معلومة النهاية منذ البداية؟ و قد خرج نفرٌ ممن حضر تلك المأساة يقولون: يا ليتنا تركنا الميدان قبل أن تفيض ساحته بدماء الأبرياء. وآخرون يرون أنه كان بالإمكان تجنب المأساة لو وجد قادة واعون،فإنهم كانوا سيدركون جدية النظام في فض الاعتصام بالقوة.
ولكن السؤال المهم بهذا الصدد: ماذا كان ينتظر المتظاهرون من النظام؟ أن يستجيب لمطلبهم بعودة النظام الشرعي ؟هذا المحال بعينة، أم يتركهم وهم ماضون في تجمعهم الى أن ينتهي بعودة الأمور إلى نصابها؟و هذا محال أيضا. نحسب أنهم في أغلبهم كان يدركون في أعماقهم بوجوب التضحية عندما لا يكون منها بد. وان للوقوف في وجه الظلم ثمن، فإذا كان الظلم يرتكن إلى قوة باطشة، فمن ذا الذي يتصدى له ويتكلف الثمن الغالي إن لم يكن الشهيد؟!
وليت شعري من يكون الشهيد إن لم يكن ذاك الذي يقف في وجه الظروف القاهرة والأوضاع القائمة قائم الصلب ثابت الوطأة في حين ينزل الناس على حكم الظروف والأوضاع خانعين مستسلمين؟ وصية الشهيد : إما أن تنزل الدنيا على مبادئ الحق والعدل وإما أن نبذل أرواحنا في سبيل ذلك، ولا طريق ثالث.
وماذا عن الغلبة؟ إذا قيست الغلبة بمقياس المنفعة العاجلة للفرد فلا شك أن أصحاب الأريحية والشهداء هم الخاسرون، أما إذا قيست بمقياس المنفعة الباقية للنوع الإنساني فلا شك أنهم الغالبون، لأن بني الإنسان إنما ينتظم عيشهم سويا إذا تخلوا عن أنانيتهم ونسوا منافعهم المحدودة في سبيل مصلحة الإنسانية.
إن دماء الشهداء لن تذهب هدرا لأنها رصيد الإنسانية الثمين، وأنهم أخلد من خصومهم لأن الأريحية أخلد من المنفعة العاجلة . هم الأحياء حقا كما وصفهم القرآن الكريم (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل إحياء ولكن لا تشعرون).
أضف تعليقك