مع حلول يوم 31 يوليو من كل عام، تتقلب الذكريات لتعيد للأذهان عملية الاغتيال التي نفذها الاحتلال الصهيوني بحق القائدين جمال سليم وجمال منصور، أبرز قادة حركة حماس السياسيين بالضفة، ومن مفكريها ورواد عملها.
وروى الصحفي أحمد البيتاوي، في تدوينه له، ملامح ذلك اليوم 31-7-2001، حيث اغتيال الشهيدين القادة وبرفقتهما الصحفيون محمد البيشاوي وعثمان قطناني، وفهيم دوابشة، وعمر منصور، وطفلان، عقب إطلاق طائرات الاحتلال صواريخها على مكتبهم في مدينة نابلس.
يقول البيتاوي في تدوينته: "قبل خمسة أيام من اغتيال الجمالين، شوهد الرجلان في جنازة رفيقهما صلاح دروزة "أبو النور" (الذي اغتاله الاحتلال باستهداف سيارته)، منصور كان يحمل أحد أطراف النعش، وعلى يمنيه كان سليم، ومن الخلف كان "والدي" (الراحل الشيخ حامد البيتاوي)، أما على الطرف الرابع فكان الشيخ أحمد الحاج علي.
حاول الجمالان يومها التراجع للخلف وإفساح المجال للشيخين غير أنهما رفضا وأصرا على البقاء في الخلف، لا أعرف هل هذا الفعل كان جزءا من تصحيح أخطاء الماضي؟ أم كان إشارة رمزية منهما أن الشباب إذا ما قاوموا وضحوا يُقَدمون على العلماء والمشايخ؟ فالسبق هنا لمن جاهد وليس لأصحاب الشيبة، فكم من تلميذ برَّ أستاذه وسبق معلمه.
كانت عملية اغتيال الجمالين سليم ومنصور ورفاقهم يوم 31-7-2001، من أصعب المواقف التي مرت عليّ في انتفاضة الأقصى، في ذلك اليوم تناقلت وسائل الإعلام خبر استهداف أحد المكاتب الإعلامية وسط نابلس بصواريخ أطلقتها طائرة أباتشي "إسرائيلية"، توجهت كآلاف غيري مسرعاً إلى المكان، كان المكتب متفحماً من الداخل، في حين كانت بقع الدماء تملأ المكان، كان الحديد منصهراً، والخشب مسودًّا، والجدران والأرضيات محفرة، أما أجساد الشهداء فكانت مشوهة، ممزقة، متناثرة متداخلة مع بعضها، متغيرة المعالم، كانت بقايا أجسادهم لا تزال في المكان.
في صبيحة اليوم التالي خرجت نابلس المحاصرة المكلومة عن آخرها في جنازة ضخمة مهيبة لم ولن أرى مثلها في حياتي، زاد المشاركون فيها عن 150 ألفاً، ضاقت بهم شوارع نابلس العريضة وأزقتها الطويلة، هؤلاء هم الذين نجحوا في دخول المدينة رغم الحصار المحكم الذي كان يطبق على أنفاسها، ولو قدر لبقية الجماهير الوصول من القرى والمدن المجاورة لزاد المشاركون عن ربع مليون.
انطلق موكب التشيع من مشفى رفيديا باتجاه دوار المدينة، لفت الجثامين الستة بالرايات الخضراء وحملت على أكتاف مقنعين مسلحين من كتائب القسام، كان المشاركون على مد البصر، يومها صعدت إلى سطح عمارة "العنبتاوي" قرب الدوار، كان الناس كبحر هادر الأمواج، يتدفقون تباعا، أما هتافاتهم فكانت تطلب الثأر والانتقام؛ وهو ما كان بعد أقل من شهر، فعز الدين المصري أوجعهم في عملية سبارو بالقدس المحتلة.
كانت عملية اغتيال الجمالين من أكبر الضربات وأقساها التي توجه لجناح حماس السياسي في الضفة الغربية بل وفي فلسطين كلها، فقد كان جمال منصور "ورغم صغر سنه النسبي" أحد أبرز مفكري الحركة ومنظريها، فحماس عموما كانت تفتقد لمثل هذه الوازنة، كان يمتاز برجاحة عقله ويملك نظرة تحليلية ثاقبة للأحداث ومجريات الشخصيات الأمور، كان يملك قدرة هائلة على الإقناع والتأثير، كان يخاطب العقل والقلب في آن في مزاوجة قل نظيرها، كان يملك شخصية كارزمية آسرة ولسانا طلقا، كانت الكلمات تنساب من بين شفتيه مختصرة معبرة كفيلسوف إغريقي أو حكيم يوناني، إذا تحدث أنصت إليه من حوله، كان ملهما خاصة لشريحة الشباب ورأوا فيه قدوة ونموذجاً قريبا منهم ويحتذى به، كان هادئًا بشوشا صابرا متواضعا يألف ويؤلف، كسب احترام جميع ممثلي الفصائل، وفرض شخصيته عليهم بحنكته ودماثة خلقه.
المفكر في الحركات والأحزاب، خاصة الأيدلوجية يعدّ شخصية هامة جدا، فهو القائد الذي يوجه الأتباع ويضع التصورات والخطوط والسياسات العامة، هو المحرك.. هو الشخص الذي يعرف إلى أين يتجه التنظيم وكيف سيكون شكله بعد عشرين عاماً.. وهو الذي يقيم الحركة إن حصل أي زيغ أو انحراف عن المسار الصواب والسكة الصحية...
أما جمال سليم، الذي أعرفه منذ أن كان أستاذا لي في المدرسة الإسلامية في المرحلة الإعدادية، فلا يختلف كثيرا عن صديقه ورفيق دربه منصور، كان خطيبا مفوهاً ذا شخصية جماهيرية قريبة من الشارع، ذا صوت جهوري قوي، تراه موجودا في جميع جنازات الشهداء ومواكب التشيع، أنهى قبل اغتياله بأسابيع قليلة كتابة رسالة الماجستير عن أحكام الشهيد في الإسلام، كانت رسالة مكتوبة بالدم لا بالمداد على طريقة صاحب الظلال والمعالم سيد قطب، قبل أيام من اغتياله وفي حفل تأبين رفيق دربه الشهيد صلاح دروزة، وقف على المنصة مرددا: إنا نقدم قبل الجند قادتنا... نحو المنون سباقا نحو مولانا...
أعتقد أن القائد الذي يستشهد من الصعوبة بمكان أن يحل أحد مكانه بنفس ثقافته ودرجة فهمه وقدرته على القيادة والتأثير بالجماهير، فهؤلاء كانوا من ثمار وتربية الرعيل الأول، وأعتقد أن مقولة القائد يخلفه قائد هي للاستهلاك الإعلامي ليس إلا.
أضف تعليقك