مصيبة فعلا أن يعتقد حاكم يمتلك قوة مالية ضارية أن التاريخ كلفه مهمة تغيير منطقته أو العالم، وينسى أن دوره الأول هو تنمية بلاده، وأن الأدوار خارجها يجب أن تكون محكومة بالقوانين والأعراف الدولية. ولنا أن نتخيل ــ مثلا ــ كم كانت ليبيا ستصبح مختلفة لو أن سلوك (العقيد) القذافى اتسم بقدر من التواضع والواقعية. لو أنه اختار بناء جامعة محترمة فى ليبيا بدلا من الانفاق على الجيش الأحمر اليابانى.
الفقرة السابقة اقتباس من مقالة مهمة كتبها الأستاذ غسان شربل رئيس تحرير صحيفة «الشرق الأوسط» السعودية، ونشرت فى عدد يوم ٢٦ يونيو الحالى تحت العنوان التالى: قطرة تواضع من أجل قطر. وكما فى الفقرة التى اقتبستها فإن المقالة حفلت بالنصائح التى دعت قطر إلى «مراجعة حساباتها. إلى قطرة تواضع لابد منها للتحلى بالواقعية واستخلاص العبر». وخلص من دعوته إلى القول بأنه «لابد من العودة إلى الدولة الطبيعية والأدوار الطبيعية».
المقالة أرادت أن تقول إن قطر تحاول أن تلعب دورا أكبر من حجمها. وهى تثير قضية مهمة فى مشهد الأزمة الخليجية بأسلوب شيق، تجاوز لغة الردح والابتذال الذى اتسمت به كتابات كثيرة تطرقت إلى الموضوع. إلا أن عيبا واحدا شابها هو أنها وجهت إلى الدوحة دون غيرها. وهو ما يبعث على الدهشة والحيرة. وأشك كثيرا فى أن يكون الكاتب المحترم أراد من قطر أن تتخلى عن الأدوار التى تقوم بها خارج حدودها، لكى يتمكن جيرانها من أن يتمددوا فيها ويوسعوا من نطاق نفوذهم وتأثيرهم فى المحيط العربى.
وقبل أن أستطرد فى مناقشة فكرته أنبه إلى أمرين، أولهما أن مسألة «الدور» لها أكثر من وجه. ذلك أنه قد يكون بالتدخل العسكرى أو المالى، وقد يتم من خلال التعبئة الإعلامية والبث الفضائى، كما أنه يمكن أن يتحقق من خلال تقديم النموذج الايجابى الذى يجذب الآخرين ويغريهم باحتذائه. والصيغة الثالثة والأخيرة هى وحدها المشروعة، خصوصا أنها تعد تأثيرا غير مباشر وليس تدخلا.
الأمر الثانى أن «الدور» ليس مرتبطا بالضرورة بالحجم، وإسرائيل نموذج على ذلك، إذ ليس سرا أنها تقوم بأدوار كثيرة فى المنطقة وخارجها، رغم أن عدد سكانها فى حدود ٨ ملايين نسمة، لذلك أزعم بأن الدور مرتبط بالقدرة وليس بالحجم، وعناصر القدرة متعددة، فمنها ما هو عسكرى واقتصادى ومنها ما هو سياسى وثقافى.
الثغرة الأساسية فى مقالة الأستاذ غسان شربل أنه خص قطر بنقده، فى حين أن الطرف الآخر فى الأزمة الخليجية أو قيادته على الأقل تمتلك القوة المالية الضارية التى تحدث عنها، وتسعى جاهدة لإحداث التغيير فى المنطقة بمشرقها ومغربها وإذا جاز لنا أن نتصارح أكثر فسنجد أن أذرع تلك الدول التى تتحرك وتسعى لتحقيق التغيير الذى تنشده أوفر وأكثر عددا من كل ما تتوسل به قطر. وسبق أن قلت إن كل ما يؤخذ على قطر يمكن أن يتحول إلى لائحة اتهام للذين يقودون حملة مقاطعتها وحصارها. وذلك جانب تجاهله الكاتب الذى يعرف جيدا حقيقة الدور الذى يؤديه المال النفطى فى العالم العربى وخارجه. كما أننى لا أشك فى أنه يدرك أن المشكلة ليست فقط فى طموحات بعض الحكام الذين يملكون القوة المالية «الضارية»، وإنما أيضا فى الفراغ العربى المروع الذى سمح لتلك الطموحات بأن تتعاظم وتستشرى.
لقد ظلم الكاتب موضوعيته مرتين، الأولى حين وجه رسالته إلى الدوحة فقط، فى حين أنها واجبة التعميم على بقية العواصم العربية الضالعة فى الأزمة. إذ بدا وكأنه حرم على قطر ما استحله الآخرون وأوغلوا فيه. أما المرة الثانية فحين تجاهل الأهداف التى يرنو إليها كل طرف، من وقف إلى جانب الثورة المضادة بكل قوة وشراسة، ومن وقوف مع تطلعات الشعوب العربية فى الحرية والكرامة والعدل الاجتماعى.
أضف تعليقك