• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

أجلس على كرسي طبيب الأسنان، أرتجف ذعراً من حقنة البنج، لكن من خلفها يظهر بابتسامته الواسعة، وكلماته التي تروّح عن مرضاه، الرجل الذي كنت أعالج أسناني عنده، ولا أعرف أكثر من أنه جاري الذي يفتح عيادته في منطقتي السكنية المكتظة، ثم تحادثنا، وأذهلني كمّ العلوم التي يتقنها، فهو ليس فقط عبقري طب الأسنان، وحشو الجذور، بل والكاتب والداعية النشط جدًا، والطبيب الشغوف بمهنته، ورجل الخير الذي يطرق عيادته الكثير من غير القادرين، فلا يتقاضى منهم شيئاً، وأخبرني أنه يريد أن يفتح قناة على اليوتيوب باسمه؛ ليتمكن من تسجيل بعض الكلمات في المناسبات؛ لتبث عبر قنوات السوشيال ميديا، وَعَدته بالمساعدة فهذا مجال تخصصي، لكني لم أفعل، وبدا لي واضحاً قلة همتي المخجلة بجوار طاقة الرجل المتفجرة.

ورحت أسأله أول كل جلسة في بعض المسائل الفقهية، فكان يجيبني وهو يعمل، ذهب خوفي من طبيب الأسنان على كرسي الدكتور الرائع أحمد عارف، حكى مرة كيف تم اعتقاله في عهد المخلوع مبارك، وكيف أنه لم يتعرض للتعذيب؛ لأنه كان يداوي أسنان الضباط، واستحوذ على قلوبهم فوراً، تذكرت كلماته عن لطف الله به أيام اعتقاله الأول، وأنا أتابع الفيديو المؤلم الذي تم بثه له من آخر محاكمة في معهد أمناء الشرطة، وهو يسير ببطء، وواضح من هيئته في أي ظروف قاسية يحيا داخل محبسه الانفرادي بسجن العقرب.


في آخر أيام حكم الرئيس مرسي قبل خطفه والانقلاب الرسمي عليه، كنت في العيادة، وفي طريقي إلى هناك سمعت همس جاراتي والتجار في السوق عن كميات السلاح التي تم توزيعها على مجموعات من البلطجية المعروفين بالفساد والمخدرات في منطقتنا، وصلت العيادة حزينة جداً، ثم بقيت صامتة طيلة الجلسة، ولم أتذمر من حقنة البنج كعادتي، ولم أتحرك، والعجيب أنه الآخر كان شاردًا جدًا، الرجل الضحوك المستبشر الذي يزين جلساته بحديث شائق يتبادله مع مساعده، وأنصت لكل حرف بشغف، كان واجمًا، وفي عينيه نظرة حزينة جدًا، ثم وأنا على باب غرفته مغادرة جاءني شعور قوي أن أتحدث الآن، أو أصمت للأبد، وقفت وأنا أفتح الباب، واستدرت نحوه، وقلت له: هيخونوكم يا دكتور السلاح مالي السوق فيه حاجة وحشة هتحصل والدنيا هتتقلب.

نظر لي باهتمام، وقال بقوة: "قولي للناس ما تخافش مش هيقدروا يعملوا حاجة، إحنا هنعرف نوقفهم عند حدهم محدش يخاف".

أخذت كلماته وخرجت، وأنا أرسل له نظرة وداع خائفة، لست متأكدة من كلامه، لكني كنت متأكدة من إيمانه بما يقول، كان همّه الأول كعادته الناس وطمأنة الناس، والتواصل مع الناس، مصر كانت تحتاج إلى هذا الرجل، وطننا خسر كثيرًا بغيابه خلف السجون.

تركونا أيتاماً لا نجد من نتحدث معه، ولا من يهتم بآلامنا تابعته بعد ذلك في ميدان رابعة، وهو يتحدث بعد كل مجزرة، وتبث قنوات القدس والحوار واليرموك مشاهد المجازر حية ومباشرة، وكلماته عنها، الرجل شاهد الهول بأم عينيه في تلك الفترة فعلياً، وكان مصراً على توثيق كل شيء كما قال في المحاكمة الأخيرة، إنه تم إتلاف قرص صلب قدمه للنيابة يوثق فيه لمجزرة رابعة العدوية، وكان ثابتاً في ذلك الوقت رغم كل شيء، وكنت أرى وجهه يزداد حزناً، ثم جاء الفض واعتقل الدكتور أحمد بعده من بيت أهل زوجته، ورأيته ينزل معهم بهدوء.

الرجل الذي بدأ جهاده مبكراً جداً كان على موعد مع الاختبار، كم عاماً مر عليه حتى اليوم في محبسه الانفرادي لا يشكو إلا لله، كان الفيديو الأول الذي رأيته له من الداخل هو حين دخلت له زوجته وأطفاله في المحكمة، كان الشحوب وفقدان الوزن في ذلك الفيديو له مع الدكتور البلتاجي والدكتور باسم عودة، رغم أن ابتسامتهم كانت قتالة، كيف يحارب هؤلاء اليأس بالإيمان والعدو بالابتسام!

ثم صدمنا هذا الفيديو الأخير الذي يتحدث فيه عن التعذيب الممنهج والتجويع داخل العقرب، والحرمان من الشمس والمواد الكيماوية الحارقة التي يلقونها في الزنازين، وأحرقت وجوه البعض، بل ولم ينسَ هويته كداعية ومجاهد، وهو يهتف بأعلى ما استطاع عن آية من آيات الله، حين أطلقوا عليهم كلاباً شرسة، فالتفت الكلاب وانقضت على مطلقيها، ما زالت الروح الصاخبة تملأ الكون ضجيجاً يا دكتور أحمد، ما زلت حياً رغم التنكيل، ما زلت واقفاً على قدميك ترفع كلمة الحق بصوتك وفعلك، ورغم جراحك التي لم تعد تخفى على أحد.

ما زلت مداوياً تحتاجك مصر كلها لتطيب آلامها كما اعتدت أن تفعل، أين أنت لأخبرك بحال الفقراء اليوم؟ أين أنت لترى كيف توحش الوجع بعد غيابك؟ حياك الله وبيّاك وردك سالماً غانماً، ورأينا يوم نصرك ونصرنا قريباً مرفوعاً على الرؤوس إلى ميدان رابعة، فمثلك ينتظر وعد الله الحق، وعسى أن يكون قريباً.. المعجزات لا بد تحدث لكم، والشمس ستشرق من قلوب تلك الزنازين العامرة، رغم خرابها بقلوب عطرة عاهدت الله على الجهاد، لا يضرها كيد السجان، ولا طول الأسر، والذي أخرج يوسف بشيراً بالفرج منقذاً للناس من المجاعة والهلاك، ورفعه على خزائن مصر قادر أن يرد أحمد عارف وإخوانه إلى أعلى مما كانوا قبل أن يغيبهم السجن.

أضف تعليقك