لا أعرف المشاعر التي انتابت "المناضل متقاعد" عبد الحليم قنديل، وهو يطالع قرار "الجنرال متقاعد" عبد الفتاح السيسي بتشكيل الهيئة الوطنية للصحافة برئاسة "كرم جبر"، وهو اختيار جاء ضمن إفرازات ثورة 30 يونيو المجيدة، التي يرى قنديل أنها صححت مسار ثورة يناير بإسقاطها للرئيس المنتخب، وجلبها وزير الدفاع رئيسا للبلاد!
عبد الحليم قنديل، ليس إبراهيم عيسي، وإذا كان هناك من معارضي آخر الزمان، من كانوا يمارسون المعارضة في عهد مبارك استغلالاً للانقسام في السلطة، فلم يكن قنديل من هؤلاء. وهناك حملات ضد بعض المسؤولين كانت أطراف في السلطة تقف وراءها بما في ذلك الحملة ضد جمال مبارك، الذي كان يرى شخص مثل صفوت الشريف، أن ظهوره على المسرح السياسي مثل خطراً على الحرس القديم في الحزب الحاكم، وقد تم التخلص من الرجل القوي في الحزب "كمال الشاذلي"، وكان نجل الرئيس المخلوع قد استعان بوزير الداخلية "حبيب العادلي" لإسقاط وزير الزراعة والأمين العام للحزب، في الانتخابات البرلمانية في 2005، وحاول إسقاط الشاذلي لكنه لم يتمكن، لأن أعيان الدائرة حموا إرادتهم!
وكل ما فعله جمال مبارك، أنه استغل مرض والده وسفره للعلاج في ألمانيا فقرر عزل صفوت الشريف من منصب وزير الإعلام وتعيينه رئيساً لمجلس الشورى، وهو "غرفة برلمانية" كانت ميتة، وإن نفخ فيها "الشريف" من روحه فأحياها، وكان رئيس مجلس الشورى يعلم أن بقائه في موقعه مسألة وقت وأنه مرهون باستمرار مبارك في الحكم.
وهذا الانقسام داخل قمة السلطة، سهل مهمة بعض المعارضين، فإبراهيم عيسي الذي يهاجم التوريث، يحضر حامي حمي القصر الرئاسي "زكريا عزمي" احتفالات صحيفته "الدستور" السنوية وعندما يقرر "عيسي" الانتقال بها من مطبوعة "أسبوعية" إلى يومية، فإن هذا يتم في لحظات بينما لم يفرغ من الانتهاء من فنجان القهوة الذي طلبه له في مكتبه رئيس مجلس الشورى، ورئيس المجلس الأعلى للصحافة، في وقت تغلق فيه السلطة جريدة "الشعب" وترفض تنفيذ ثلاثة عشر حكماً قضائياً، قضوا بإلغاء قرار إلغائها!
"قنديل" لم يكن من هذا الصنف من المعارضين، فقد كان معارضاً جاداً وجسوراً، وقبل أن يواجه نظام مبارك، في فترة الحراك السياسي، كان يصوب مدفعيته إلى يساريين باعوا أنفسهم للسلطة ومن "صلاح عيسي" إلى "رفعت السعيد". فهل كانا عقدته؟، وكان الأول يتهمه بأنه من الحنابلة الناصريين، ولا ينطق اسمه إلا مسبوقا بلقب "الشيخ عبد الحليم"، وأحياناً "الشيخ عبد الحليم محمود"!
فهل كان "الشيخ عبد الحليم" يريد أن يكون "رفعت السعيد"، أو "صلاح عيسي" لكن الفرصة لم تكن مواتية، وعندما جاءته في عهد السيسي عض عليها بالنواجذ؟!
لأن عبد الحليم قنديل كان معارضاً جاداً فلم يكن مرحبا به على موائد المجلس العسكري بعد تنحي مبارك، والتي كانت تنصب بشكل يومي للمناضلين الجدد، الذي انتحلوا صفة "الثوار"، فلم يكن بالتالي متاحاً له أن يحقق رغباته المكبوتة، وقد هاجم المجلس العسكري هجوماً حاداً.. واتهم أعضاءه في ذمتهم المالية، ومنذ اللحظة الأولى لم يكن حكم الرئيس محمد مرسي مستعداً للتعامل معه!
وإذ دعيت ضمن رؤساء تحرير الصحف المصرية في اليوم الأول للقاء الرئيس محمد مرسي في الأسبوع الأول لتوليه الحكم، فقد تبادل الكلام ثلاثة من رؤساء التحرير، يرفع أحدهم الكلمة فيعطيها له الرئيس ولأكثر من مرة، وهم من المعروفين في الوسط الصحفي بأنهم صنيعة الأجهزة الأمنية، فحتى "سمير رجب" رجل مبارك، طلب الكلمة فأعطيت له، بعد أن سخر الرئيس منه ووصفه بأنه رجل كل العهود، لكن عبد الحليم قنديل ظل يرفع يده أكثر من مرة "طالبا الكلمة" دون جدوى، وكان يمكن للدكتور محمد مرسي أن يتعامل على أنه لم ينتبه له، لكن كان تعليقه أكثر إيلاماً من عدم منحه الكلمة!
بعد أن انفض السامر، قال له الرئيس: "لقد طلبت الكلمة أكثر من مرة يا دكتور عبد الحليم وان شاء الله تتكلم المرة القادمة".. ورد قنديل: "إن كانت هناك مرة قادمة!".
ولم تأت بالفعل المرة القادمة، فلم أدع وعبد الحليم قنديل إلى أي لقاء آخر، فقد كانت الدعوات توجه بصيغة تقبل "الفرز" و"التجنيب"، فلقاء الرئيس مع بعض الإعلاميين، ولقائه مع رؤساء تحرير الصحف القومية، ولقاء آخر مع مقدمي برامج "التوك شو"، وقد كنت رئيسا لتحرير صحيفة حزبية بينما كان عبد الحليم قنديل رئيساً لصحيفة خاصة.
وقد أسرها عبد الحليم قنديل في نفسه، واندفع معارضاً ومؤيداً إسقاط الرئيس بأي وسيلة ولو بالانقلاب العسكري!
وهناك من شاركوا في مظاهرات 30 يونيو، مثل عبد الحليم قنديل، ثم تابوا من قريب؛ فمنهم من انقلب بعد إعلان السيسي ترشحه للانتخابات الرئاسية، ومنهم من توقف عن تأييده لأنه لم يجد على النار هدى؛ فقد كان يمني نفسه بمنصب في الدولة الجديدة، لكنه خرج من المولد بلا حمص، وأخر العائدين من معسكر الانقلاب كان موقفهم بعد قرار التفريط في التراب الوطني وفي جزيرتي "تيران " و "صنافير"!
وبقي عبد الحليم مؤيداً، ومبرراً، وملتمساً الأعذار، ولم يعد يدعو إلى لقاءات السيسي، وصار ما يسعده ويطيب خاطره أنه أوكلت إليه مهمة تشويه الفريق أحمد شفيق، ويكفيه أن اتصالات عباس كامل به لم تنقطع!
في لقاء سابق للسيسي مع الصحفيين، وبينما وقف عن يمينه رئيس المجلس الأعلى للصحافة وعن شماله نقيب الصحفيين، ظهر قنديل مزاحماً أحدهما ليكون بجوار السيسي، فقد كان يمني نفسه بأن يكون "كاهن الفرعون"، أو "هيكل المرحلة"، وهو الموقع الذي تمناه "عبد الله السناوي"، لكن السناوي عندما وقف على أن السيسي ليس عبد الناصر، أيقن أنه لن يكون "محمد حسنين هيكل" فتراجع خطوة للخلف!
بيد أن عبد الحليم لم تكن عنده الإرادة على التراجع ولو خطوة، ويسيطر عليه أنه أول من دعي لوليمة الترشيح للانتخابات الرئاسية، فذهب إليها مع رهط من الناصريين كان من بينهم المنسق العام لحركة "كفاية" المهندس محمد الأشقر، وكلهم من أنصار حمدين صباحي السابقين لكنهم باعوه في هذه الانتخابات، ومن قبل وصف قنديل "صباحي" بأنه "غاندي العظيم"، لكنه في هذه الانتخابات وصفه بـ"الزعيم الموسمي" فقد باعه واشترى السيسي، الذي لديه مشكلة حقيقية مع كل من شاركوا في ثورة يناير، وكل من كانوا ضد مبارك، ثم أن عبد الحليم قنديل اتهم أعضاء المجلس العسكري في ذمتهم المالية ولم يستن منهم عبد الفتاح السيسي!
لقد أعاد السيسي دولة مبارك، ولم يجد قنديل في ذلك مبرراً كافياً لأن يغادر معسكره، لكن أن يصل الأمر إلى حد اختيار كرم جبر بالذات رئيساً للهيئة الوطنية بالصحافة، فهذه ثالثة الأثافي!
لقد شكل السيسي الكيانات الإعلامية الثلاث من دولة مبارك، ولم يعين فيها عبد الحليم قنديل وأمثاله، ويبقي هذا كله أمراً عادياً لكن غير العادي هو اختيار كرم جبر بالذات، ليس لأن جبر أخرج من مؤسسة روزا اليوسف بعد الثورة بقوة الدفع الثوري، فأحد الأعضاء الذين اختارهم السيسي كان رئيسا لوكالة أنباء الشرق الأوسط وتم أخرجه من أيضاً من مكتبه إلى الشارع، وبدا في اختيارهم من قبل السيسي أ رداً للاعتبار لهم بعد أن أهانتهم الثورة!
كرم جبر أمره مختلف، فقد ناظر عبد الحليم قنديل قبل الثورة دفاعاً عن مبارك، وكان قد استدعي لمهمة إهانة قنديل، بعد غضب مبارك على حلقة سابقة شارك فيها رئيس تحرير "الأهرام" أسامة سرايا، الذي كان لا يذكر اسم عبد الحليم قنديل إلا مسبوقاً بلقب "الدكتور" وعلمت وقتها أن مبارك غضب غضبا
شديدا على هذا الاحترام الذي اعتبره زائداً عن الحد، وعنف أسامة سرايا في مكالمة هاتفية حادة!
وجاء كرم جبر ليصف قنديل بأنه "دكتور بهايم" وهو وصف يطلق على الأطباء البيطريين وقال قنديل أنه تخرج في كلية الطب البشري لأنه كان متفوقاً في الثانوية العامة وليس فاشلاً مثله. وفي هذا اللقاء قال قنديل أنه يتقيأ مبارك، ورد عليه جبر بالتي هى أسوأ.
وقامت الثورة وأخرج كرم جبر من مكتبه كرئيس مجلس إدارة مؤسسة "روزا ليوسف" وها هو يعود مرة ثانية على حصان أبيض، بينما هبط سقف أحلام عبد الحليم قنديل إلى مجرد أن يكون عند حسن حظ عباس كامل فيتم الإبقاء عليه رئيسا لتحرير جريدة "صوت الأمة" بعد أن اشتراها "أبو هشيمة" لصالح السيسي!
لقد صدرت جريدة "صوت الأمة" بعد تشكيل الكيانات الإعلامية الثلاث ولا توجد فيها كلمة نقد لاستدعاء الفلول وإحياء كرم جبر!
حالة عبد الحليم قنديل ذكرتني بما قرأته قديماً عن أحد الذين تم اعتقاله بتهمة الانتماء للإخوان في عهد عبد الناصر وقد شاهد في سجنه الأهوال فخرج وقد أدمن الخمر، ومشي في طريق الملذات، وجاهر بالمعصية، ليسقطه المخبرون من حساباتهم.
وعندما مات عبد الناصر، أراد أن يرجع إلى ما كان عليه فلم يستطع.. كان يبكي وهو لا يمكنه أن يقلع عن شرب الخمر. فهل يبكي عبد الحليم حقا على حاله، وعلى سوء الخاتمة وهو يسقط إلى الهاوية؟ لاسيما وأنه "لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى" فلا استمر مناضلاً ولا تقاعد كرفعت السعيد فاستفاد من قربه من السلطة.
لا بأس.. دعك يا عبد الحليم من كل هذا وحدثني عن أحاسيسك الآن!
أضف تعليقك