لمّا كانت الحلقة الثانية من مقابلة الدكتور محمد البرادعي مع "التلفزيون العربي"، كان الحوار قد فقد وهجه، وبدا روتينيا يفتقد للجاذبية، لكن وهج الظهور ظل كما هو بالنسبة لسلطة الانقلاب في مصر، ففي قناة "صدى البلد"، تم الاستمرار بتقديم عدد من التسجيلات؛ بغية تشويه صاحبها، وإحداث الفرقة بينه وبين الذين تحدث عنهم بشكل سلبي، وقد تبين أن هاتفه تحت المراقبة!
أزمة القوم عبر عنها الكاتب الإسرائيلي وضابط المخابرات السابق "يوني بن مناجيم" في مقال نشره على موقع "المعهد الأورشيلمي لشؤون الدولة"، مع خلاف في ترجمة المقال بين موقع "الجزيرة نت" وبعض المواقع الأخرى، فالأول دار حول رصد الكاتب لحالة الفزع التي انتابت سلطة الانقلاب في مصر من جراء ظهور البرادعي بعد غياب. في حين أن المواقع الأخرى، وربما من باب الإثارة، قالت إن إسرائيل نفسها هي التي تشعر بالفزع!
ومهما يكن، فإن الطرفين اتفقا على أن كاتب المقال أكد أن ظهور البرادعي مثل تهديدا جديا لنظام السيسي، وإذاعة التسجيلات كاشفة عن الإحساس بالتهديد، وبشكل يوحي بأن قائد الانقلاب قد ترك كل شؤون الدولة، وتفرغ لمهمة الإساءة إلى البرادعي، حتى وإن فقد وهجه في الحلقة الثانية، لافتقداها للإعداد الجيد!
عندما تم الإعلان عن أن مقابلة البرادعي على "التلفزيون العربي" ستذاع في خمس حلقات، فإن هناك من قالوا في تعريف البرنامج أنه سيكون على غرار "شاهد على العصر"، وهو البرنامج الذي يُبذل جهدا في إعداده، على نحو يجعل محاوره على إلمام بكل تفاصيل الشخصية التي يحاورها، من خلال قراءة كل ما كتب عنها، من تعليق على الأحداث التي كان الضيف طرفا فيها. وإذا كانت الحلقة الثانية مع البرادعي حول دور الوكالة الدولية للطاقة الذرية في الغزو الأمريكي للعراق، فالأسئلة تبدو للمشاهد قد وضعت على عجل ومن خلال بحث على "جوجل" غير معمق، ليمكن الاستغناء عن مشاهدة الحلقة بضربة على "جوجل" أيضا!
لا أنكر أن للموضوع أهميته، لا سيما أن اتهام البرادعي بتدمير العراق بدأ في حملة الإبادة الإعلامية في عهد مبارك، عندما عاد الرجل ليمارس السياسة ويمثل بديلا محتملا لحكم الأب والأم والابن، وليس قبل هذا التاريخ، ثم جرى استدعاء الاتهام من قبل من يهاجمون البرادعي من الرافضين للانقلاب العسكري، وذلك لدوره في هذا الانقلاب، وهو ما يأتي تماشيا مع الحكمة السياسية الشهيرة: "الذي تكسب به.. العب به"، وقد كان يكفي ليستحق البرادعي اللعنة، أن يتم الاكتفاء بما كسبت يداه فعلا، من تمثيل غطاء مدني للانقلاب العسكري، ومن التآمر على إرادة الجماهير واختيار الصندوق، على نحو يكفي للطعن في استقامته السياسية، ويجعل منه سياسيا انتهازيا لا يختلف كثيرا عن السياسيين الذين تزدحم بهم الساحة المصرية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار!
وعندما يتم طرح الاتهام على الدكتور محمد البرادعي، فإنه مقبول، بل مطلوب، لكن الملاحظة هي حول عدم التعرض لموقفه في الحرب على العراق بالعمق اللازم، ومحاولة معرفة ما كان يدور في الكواليس، والضغوط الأمريكية على الوكالة، بل وموقفه هو الشخصي من عملية تدمير هذا البلد العربي على يد الغزاة الجدد، ومناقشة ما نشرته المخابرات البريطانية عن وجود أسلحة للدمار الشامل في العراق، ومعلومات مبارك التي وشى بها لبوش في هذه الصدد، بدلا من الاهتمام بإثبات البرادعي لبراءته، وهي براءة ثابتة على أي حال!
ما علينا، فالتسجيلات التي قامت بها الأجهزة الأمنية لأحاديث البرادعي الهاتفية سجلت موقفه الحقيقي من كثيرين ممن يمثلون النخبة المعارضة لنظام مبارك، وإذاعتها الآن لا تمثل قيمة تذكر، فهذه الشخصيات تعرف رأي البرادعي فيها، ولم تكن تمثل ظهيرا شعبيا له، بل كانت تريد منذ اليوم الأول لنزوله لمصر أن تسيطر عليه، وكانت فكرة "الجمعية المصرية للتغيير" تأتي في هذا الإطار، وهي فكرة رفضها البرادعي وأصروا هم عليها، ليكون من فيها هم الحكام في المرحلة القادمة، وتمثل هي الحزب الحاكم، إذا تمت الإطاحة بمبارك!
لم يكن البرادعي يثق إلا في الشباب، وكان له رأي سلبي في كل من مارس السياسة في عهد مبارك ولو من خندق المعارضة، وعمل كل ما في وسعه من أجل الابتعاد عنهم، ولم يكن يتواصل معهم بشكل مباشر، فمن يريد الاتصال منهم به فعليه الاتصال بشقيقه "علي البرادعي"، ثم صار الاتصال بـ"علي" نفسه مشكلة، فالمذكور عين لنفسه وسيطا يرد على هواتف المتصلين، وعندما نجح محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية، وتم ترويج أخبار تدور حول عرض الرئيس على البرادعي منصب رئيس الحكومة، انشغلت بالاتصال بهم لمعرفة صحة هذا، وإذ جمعتنا دعوة حضور خطاب مرسي بجامعة القاهرة، فقد ذهبت إليهم واحدا واحدا، موجها سؤالي عن صحة العرض، فكان كل منهم يحيلني للآخر؛ لأنهم لم يتمكنوا من الاتصال به بعد أن أصبح الاتصال بعلي البرادعي يتم عبر وسيط، وقد توقف الشقيق عن الرد تماما، وفي النهاية توصلت إلى أنه لم يعد هناك من هؤلاء ممن يدعون وصلا به من هو على تواصل معه، إلا واحد كان على اتصال به، ونفي عرض الرئيس. فالقطيعة كانت مبكرة!
وهذا في جانب منه يرجع إلى عيوب في شخصية البرادعي، حالت دون أن يرتقي زعيما سياسيا، مع أن كل الأجواء كانت مهيأة له للقيام بهذا الدور، وقد كان ظهر هذا منذ اللحظة الأولى التي نزل فيها إلى مصر، وإذ استقبلته الآلاف في مطار القاهرة، وكنت أشاهد الأمر عبر قناة الجزيرة من المنزل، فقد لاحظت أنه عندما رأى الجماهير من الداخل ومن الزجاج تردد في الخروج، وبدا مستعدا للجري للخلف والعودة في أول طائرة، وفي النهاية، حسم موقفه، وخرج دون أن يرحب بالجماهير المحتشدة أو يصافح النخبة التي كانت في انتظاره، وغادر أرض المطار مسرعا!
وإذ بدا أن الجميع لديهم استعداد لأن يكملوا مشوار الاصطفاف خلفه، فقد كانوا يوقنون أنه لم يعد يصلح إلا واجهة في معركتهم ضد النظام البوليسي، وقد عبر جورج إسحاق عن ذلك بقوله: نحن نحتمي في حصانة البرادعي الدولية. ورد البرادعي بأنه يحتمي في الشعب!
وفي وقت لاحق، رأت فيه أحزاب الأقلية المشكلة لجبهة الإنقاذ أنه أيضا واجهة فاحتشدوا خلفه، ومنهم من كان يهاجمه خدمة لنظام مبارك، وارتضى وهو من يمثل الثورة أن يقف بجانبه نقيب المحامين سامح عاشور، المعبر عن الثورة المضادة، وهو الذي قال في عشية ثورة 25 يناير إن حزبه الناصري لن يشارك في مظاهرات لا يعرف هوية الداعين إليها، وبينما الثورة كانت تملأ ميدان التحرير القريب من مقر الحزب العربي الناصري، كان سامح عاشور ينتصب خطيبا داخل المقر، ويعلن أن مبارك خط أحمر!
لكن البرادعي كان ينتقم من الحكم المنتخب، وفي انتقامه لم يكن يعنيه أن يصطف مع الفلول، بل لا أعتقد أنه كان سيمانع أن يأتي مبارك ويشارك في اجتماعات جبهة الإنقاذ!
ولا أعرف الهدف من إذاعة تسجيلات للبرادعي يبدي فيها رأيه السلبي في كثير ممن كانوا ضد مبارك، فقد حدثت القطيعة بينه وبينهم، بل وبينه وبين قادة أحزاب الأقلية المشكلة لجبهة الإنقاذ منذ أن قدم استقالته وغادر البلاد، بينما هم استمروا في الطواف حول القصر الرئاسي محلقين ومقصرين، ثم أيدوا السيسي وبايعوه. فهؤلاء لا يمكن أن يمثلوا ظهيرا له، ومنهم من يقبل من الوجود السياسي بدعوة كريمة من "السيد رئيس الجمهورية" تثبت له بأنه لا يزال على قيد الحياة، فالدكتور محمد غنيم الذي تململ عندما اختاره السادات مستشارا علميا له في شبابه، طار من الفرح عندما منحه السيسي المنصب ذاته في شيخوخته!
وإذا عاد البرادعي لممارسة دور سياسي، فلن يحتاج إلى هؤلاء ليكونوا له ظهيرا، وإنما يكفي التفاف شباب الثورة حوله، فإذا تحالف معه الطوفان الإسلامي، مع مساندة غربية، فإن العد التنازلي للسيسي ولحكم العسكر في مصر يكون قد بدأ!
لكن ما لا يعرفه السيسي أن المصالحة بين البرادعي وبين الإسلاميين قد تستغرق وقتا أكبر من المصالحة بينه وبين الإخوان، هذا فضلا عن أن شخصية البرادعي مترددة، ومرتبكة، وأقل من أن تحسم أمرا فيه أدنى قدر من المغامرة!
وقبل أن يستقر في وجدان السيسي ذلك، فإن الخوف من ظهور البرادعي على النحو الذي ذكره "لوني بن مناجيم" سيكون قد استبد به، ليكون كمن خاف من الموت فمات من الخوف!
قادر على كل شيء!
أضف تعليقك