• الصلاة القادمة

    العشاء 17:29

 
news Image
Apr 02 22 at 07:57 AM

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يُؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويُعزُّ مَن يشاء، ويُذِلُّ مَن يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، شرَّفنا اللهُ برسالته، وكرَّمنا بأن جعلنا من أُمَّته، نشهد أنه قد بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة ونصح الأُمَّة وكشف الله به الغُمَّة، ولم يَدَعْ بابَ خيرٍ إلا ودَلَّ الناس عليه وأرشدهم إليه، ولا بابَ شرٍّ إلا وحذَّر الناس منه ونهاهم عن سلوك الطريق الموصلة إليه، فاللهم اجزه عنا أفضل ما جزيت نبيًّا عن أمته ورسولاً عن دعوته ورسالته، اللهم صَلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وآله وأصحابه ومَن دعا بدعوته وسار سيرته إلى يوم الدين، أما بعد..!!

فإن من نعم الله- تبارك وتعالى- على هذه الأمة أن جعل ملتَها حنيفيةً سمحةً، ليست رهبانيةً كالتي ابتدعها النصارى، ولا ماديةً كالتي مال إليها اليهود فقَسَت قلوبهم، ولكنها شريعةٌ ربانيةٌ، تفخر هذه الأمة بأنها أُمَّةٌ رَبَّانية لا رهبانية.

لكنَّ بعضَ الناس أساءَ فهمَ معنى الرَّبانيَّة في هذه الشريعة، ففَهِم الربانيةَ مثلما فهم النصارى الرهبانية، فَهِمَهَا ذكرًا وأورادًا وقراءةً وتلاوةً وتسبيحًا وعبادةً واعتزالاً عن الناس، ورأى أنه إذا قام ليلَه مسبِّحًا عابدًا تاليًا للقرآن ذاكرًا للرحمن، مشغولاً بإصلاح نفسه، معنيًّا بتوثيق صلته بربه، من غير أن يكون لذلك أثرٌ في الحياة رأى أنه بهذا حقَّق معنى الربانية، وشَاعَ بين الناس ذلك الحديثُ الموضوعُ المكذوب: “عبدي أطعني تَكُنْ عبدًا ربانيًّا تقول للشيء كن فيكون”، وظَنُّوا- هداهم الله- أن العبدَ إذا اشتغل بالأوراد والتسبيحات والأذكار وصَرَف وجهَه عن الناس والأخطار والمنكرات وترك الدنيا لأهلها كما يقولون، واعتزل بنفسه يُناجِي ربه.. أنه بذلك يبلغ أن يكون وليَّ الله الذي يُحقِّق ما يُريد، ويفعل ما يشاء، ويقول للشيء كن فيكون..هكذا فَهِمَ بعضُ الناس معنى الربانية.

ولما كان هذا الفهم مُجانبًا لكتاب الله تعالى وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم- ومُجَافِيًا لحقيقة هذا الدين فإننا سنتعرف في هذه العُجَالة على معنى الربانية الحقيقية، من خلال آيات الربانية؛ لنتعرف على حقيقتها، التي جاءت الرسل أساسًا لدعوة الناس إليها؛ وذلك حيث يقول تعالى: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ (آل عمران: 79).. فما هو معنى الربانية؟! وما حقيقتها؟! وكيف نُحقِّقها في حياتنا؟!

الربانية في القرآن الكريم

القرآن الكريم مصدر قوتنا

وردت كلمة (الربانيون) في القرآن الكريم ثلاث مرات بلفظ (ربانيون) ومرة بلفظ (ربِّيون).

أ- الآية الأولى في سورة آل عمران (79): حيث يقول تبارك وتعالى:﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ﴾.

ب- والآية الثانية أيضًا في سورة آل عمران (146: 148): وفيها يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ(146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.

جـ- والآية الثالثة في سورة المائدة (44): وفيها يقول الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ﴾.

د- والآية الأخيرة في سورة المائدة أيضًا (63،62): وفيها يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمْ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾.

هذه هي مواضع ذكر الربانية في القرآن الكريم، ومن خلالها نستطيع أن نوضح معنى الربانية.

معنى الربانية

الله غايتنا في كل أعمالنا

قال العلماء: الرَّبَّاني منسوب إلى الرَّبِّ؛ لأنه قريب من الله تعالى، يَتلقَّى منهجه في هذه الحياة من الله تبارك وتعالى، وعليه يعتمد في سيره في هذه الدنيا، وإلى الله- عز وجل- مرجعه ومصيره، فهو عبدٌ لا يأخذ توجيهاتِه إلا من ربِّه، ولا يتلقَّى نظامَ حياته إلا منه.. لهذا فهو عبد رباني.

ويقول بعض العلماء: بل الرباني منسوب إلى الرَّبَّان، والرَّبَّان: هو الذي يقوم على أمر الناس ويُصلحهم، ويُسمَّى قائدُ السفينة الذي يتجنَّب بها الأهوال والأمواج والأنواء والعواصف ويسلك بها سبيلَ النجاة حتى تبلغ مرادها.. يُسمَّى رَبَّانا، وليس كل راكب في السفينة بقادرٍ على أن يُجنبها هذه الأهوال، إنما الذي يعلم حقائق القيادة وواقع الأمر هو الذي يعرف كيف يميل بها بعيدًا عن أسباب الفساد حتى ينجوَ بمن معه.

فالرَّبَّانيُّ إِذَنْ عبدٌ عَرف كيف يقود الناس إلى الله لينجوَ هو ومَن معه، وليتجنب صدمات الشيطان؛ ولذلك يُقال عمن يُصلح شخصًا أو شيئًا إنه يَرُبُّه، ففي الحديث الصحيح: “أن رجلاً زار أخًا له في الله في قرية، فأرصد الله له على مَدْرَجته (يعني على طريقه) ملَكًا، فقال: يا فلان إلى أين تعمِد- أو تقصد- قال: إلى قرية كذا أزور أخًا لي في الله، قال: وهل له- أو لك- من نعمة تربُّها عليه (يعنى تصلحها له)؟! قال: لا.. غير أني أحببتُه في الله تعالى.. قال: فإن الله تعالى أرسلني إليك يعلمك أنه يُحبك كما أحببته”.

وقال بعض العلماء: الرَّبانية من التربية، فلا يكون العبد ربانيًّا إلا حين تكون له ممارسةٌ في تربية نفسه وتربية غيره، قال ابن عباس: الربانيون: الحكماءُ الفقهاء. وقال الحسن البصرى: الرباني: الذي يُربِّي الناسَ بصغار العلم قبل كباره، فالرباني إذن له دور في عملية التربية والإحياء والإصلاح، يُربِّي الناسَ بالعلم، وينقلهم من واقعهم إلى الواقع الأفضل، ويدعوهم إلى الأحسن والأجمل، الذي ينفعهم في حياتهم وآخرتهم.

وقال ابن مسعود: الرِّبِّيون: الألوف الكثيرة، فلا يكون ربانيًّا مَنْ لم يَضَعْ يده في يد غيره من الصالحين من عباد الله ليكونوا جميعًا ربانيين، لا يكون المُنعزل ربانيًّا، بل الربِّيُّون الجماعات الكثيرة، ويرى بعض علماء اللغة العربية أن الرِّبِّيَّ عشرة آلاف، فإذا قال الله: ﴿مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ فهذا يعني أن الذين يسيرون مع الأنبياء ينبغي أن يكونوا كثرةً كثيرةً.

هذه المعاني كلها صحيحة، والرباني في الحقيقة: هو الذي يتعلم أمر الله ونهيَه ويعرف شرع الله ووحيَه، فيطبقَه في ذات نفسه، ويدعو غيرَه إليه، ويقوم بعملية الإصلاح في حياة الناس، لما فيه خير الناس في عاجلهم وآجلهم.

من صفات الربانيين

تعليم القرآن الكريم من أعظم الأعمال

أ- أن يكون دائم البحث عن الخير دائم التعرف على الحق دائم القيام بتعليمه لغيره

ليس الرَّبَّانِي إِذَنْ الذي يهتم بذاته أو بأوراده فقط، إنما الرباني يعمل على شُعبَتَيْن: على مستوى ذاته في توثيق صلته بالله على كل الأحوال، ثم يقوم بتنفيذ ما أمر به ربه وما دعا إليه نبيه- صلى الله عليه وسلم- ويكون له دورٌ في عملية إصلاح البشرية؛ حتى يكون ربانيًا، ولو قرأنا آيات القرآن الكريم وأَمْعَنَّا النظرَ فيها لظهر لنا ذلك بغاية الوضوح.

تعالوا أيها الأحبة نقرأ الآيات وما فيها من معانٍ!! يقول ربنا- جل وعلا-: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ يعني: إنما يَصلُح أن تكونوا ربانيين إذا كان أولُ أغراضكم أن تقوموا بتعليم الناس الإسلامَ، ليس المعنى: كونوا ربانيين بالانعزال، أو بالذكر في الليل فقط، إنما المعنى: لن تكونوا ربانيين إلا إذا كان لكم دورٌ في إحياء الناس في إحياء البشرية في تعليم الكتاب ﴿كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ﴾، فلا يكون رَبَّانِيًَّا مَن لم يقُم بمهمة التعليم، سواءٌ كان التعليم لأولادك في بيتك أو للناس الذين يعملون معك، أو كان الرباني مُدرِّسًا في مدرسة أو أستاذًا في جامعة، أيًّا كان وضعه، فهو يقوم بعملية التعليم على قدره، فهو لا يَعلَم من أمر الله شيئًا إلا عَلَّمَه، ولا يقف عند حَدٍّ، يقول جل وعلا: ﴿بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ﴾، فهو في حالة ازديادٍ دائمٍ من العلم، وعملٍ دائمٍ به، وتعليمٍ مستمرٍ له.

فمَن يُرِدْ أن يكونَ رَبَّانيًَّا كما أمر الله فهذه أول صفات الربانيين.. يطلبون العلم ويعملون به ويُعلِّمُونه للناس.. ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ﴾، ولم يأمرهم الحق سبحانه أبدًا بأن يكونوا ربانيين بالرهبانية المبتدعة، التي قال الله- عز وجل- عنها: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾ (الحديد: 27).. إِذَنْ أول علامات الرباني وأول صفاته أنْ يكونَ دائمَ البحث عن الخير، دائمَ التعرف على الحق، دائمَ القيام بتعليمه لغيره، على أي مستوى من مستويات التعليم.

ب- الربانية هي إصلاحٌ للنفس والمجتمع

الربانيون استُحْفِظوا كتابَ الله، أي هم المسئولون أمام الله عن حفظ الشريعة وعن نقلها وتعليمها لعباد الله ﴿بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ﴾.. فالرباني يشعر أن الله سيسأله عن الشريعة كلها، وعن هذه البشرية جمعاء؛ لأنه طلب منه أن يحفظ وَحْيَهُ، وحِفْظُ الوحي لا يكون بمجرد حفظه في الأذهان والقلوب، لكنَّ الحفظَ الحقيقي يكون بحملِه رسالةً وحفظِه أمانةً والعملِ بما فيه.

قام النبي- صلى الله عليه وسلم- ذات يوم فذكر زمانًا فقال: “هذا أوانٌ يرفع العلم، أو إن هذا زمانٌ يرفع فيه كتاب الله عز وجل”، فقام رجلٌ من أهل المدينة فقال: يا رسول الله، والله لَنَقْرَأَنَّه ولَنُقْرِئَنَّه نساءَنا وأبناءَنا!! فقال- صلى الله عليه وسلم-: “ثكلتْك أُمُّك!! إنْ كنتُ لأَحْسِبُك من فقهاء أهل المدينة.. هذه التوراةُ والإنجيلُ بيد اليهود والنصارى فماذا أغنت عنهم؟!”.. حرَّفوها وأوَّلوها ولم يعملوا بما فيها..!!

وكأنَّ النبي- صلى الله عليه وسلم- يُريد أن يقول له ولنا: إن حفظ الوحي ليس بمجرد إيجاد طلاب له يحفظون القرآن، لكنه يُحفَظ بتطبيق هذا القرآن في واقع الناس، هذا هو الحفظ، أما أن نقرأَه ونُقْرِئَه أبناءَنا فقط فهذا شيءٌ جميلٌ لكنه ليس هو الذي يُحْفَظُ به الوحيُ، فكم من حُفَّاظٍ حفظوا القرآن والعلم لكنَّ قلوبَهم الفاسدةَ دفعتْهم لتملُّق هذا أو ذاك فحرَّفُوا الآيات عن معانيها، وأوَّلوا القرآنَ على غير وجهه، واشترَوا بآيات الله ثمنًا قليلاً.

ولهذا كان من صفات الربانيين الذين حفظوا وحيَ الله ودينَه أنهم لا يخشَون في حملهم لهذا الدين وهذه الرسالة إلا اللهَ ربَّ العالمين، يقول- جل وعلا-: ﴿فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً﴾ (المائدة: 44).. يُحذِّر الله- تبارك وتعالى- الأمة الربانية الصالحة أن تجعل كتابَ الله تعالى وسنةَ رسوله- صلى الله عليه وسلم- بابًا من أبواب التملُّق والمجاملة لبعض الناس في مقابل عَرَضٍ من الدنيا ﴿وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً﴾.. كيف يَشتري العبدُ بآيات الله ثمنًا قليلاً؟! يكون ذلك بأن يترك الآيةَ أنْ يذكرَها؛ لأنَّ بعض الناس لا يُعجبهم أن يسمعوها، أو يذكر الآية ويُؤَوِّلُها على غير وجهها خدمةً لأغراضه وأغراض مَنْ يَدفع له، أو يذكر الآيةَ ثم يُعارضها برأيه وهواه ولا يستجيب لأمر الله، وهذا كله دَعَا له اليهود وحذَّرَنا الله منه.

كان في التوراة التي أنزلها الله على موسى أن الزاني المُحصن يُرْجَم بالحجارة، فلما كثُر الزنا في أشرافهم قام أحبارُهم بتبديل حكم الله عز وجل، فاتفقوا فيما بينهم على إلغاء عقوبة الرَّجْم، واستبدلوا بها عقوبةً سمَّوْها التحميم والتجْبيه، بمعنى: أنْ يُسَوَّد وجهُ الزاني ويُحْمَل على حمارٍ على هيئةٍ مُزْرِيةٍ فيُجْعَل وجهُه إلى ذيل الحمار وقفاه إلى رأس الحمار ويُطاف به، ولا يُرْجَم، فلما جاء الحبيبُ- صلى الله عليه وسلم- جاءوه برجل وامرأة منهم زَنَيَا، وقالوا: اذهبوا إلى محمد، فإن أَفْتَاكُم بالرَّجْم فلا تَقبلُوا منه، وإن أَفْتَاكُم بالتحميم والتجبيه فَخُذُوا منه، فجاءوا إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: “ما تجدون في كتاب الله التوراة؟”، قالوا: نَجِدُ التحميم والتجبيه، قال:”فأْتُوا بالتوراة فَاتْلُوهَا إن كنتم صادقين”، فجاءوا بالتوراة وجِيء بقارئ منهم أعور، فجعل يقرأ حتى وصل إلى آية الرجم، فوضع يده عليها وتلا ما بعدها، فقال عبد الله بن سَلام: يا رسول الله قُل له فَلْيَرفَع يدَه، فرفع يدَه فتلا الآية، فإذا هي آية الرجم، فقالوا: نزلت آيةُ الرَّجْم، لكنَّ أشرافَنا لما كثُر فيهم الزِّنَا اتفقنا على هذا الأمر..!!

ونزل قولُ الله- تبارك وتعالى- في هذه الحادثة التي تُبَيِّنُ طبيعةَ القوم وتغييرَهم لوحي الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنْ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ* سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (المائدة: 41، 42).

هؤلاء القوم الذين يَسمع بعضهم من بعض الكذب، يسمعون لأنفسهم ويسمعون لمن يكذب لهم ﴿إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ﴾.. يعنى لو أن محمدًا أَفْتَاكُم بالتحميم والتجبيه فخذوه ﴿وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا﴾.. فالرباني إِذَنْ- ونحن جميعًا مأمورون بأن نكون ربانيين- لا يُغيِّر في آيات الله ولا يشتري بآيات الله ثمنًا قليلاً، ولا يتأخر عن إعلان الحق والجهر به.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم

جـ- أن يكون حارسًا على منهج الله فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر

فمتى تخلَّى الرباني عن هذه الصفة استحق- واستحقت الأمة- اللعنَ.. يقول ربنا جل وعلا: ﴿وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ* لَوْلا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمْ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ (المائدة: 62، 63).

ألم يكن من الواجب على الربانيين أن يقوموا بواحب التَّنْبِيه والنَّصِيحَة والضَّرب على يد الظالم والأَخْذ على يد الفاسد والنَّهي عن قول الإثم وأكل السحت؟! لَبئس ما كانوا يصنعون، والصُّنْع أبلغ من العمل، وكأنَّ السَّاكِتَ على الباطل مع علمه يتحمَّل أوزارَ كل مَنْ يفعل الباطلَ فيُشارِك كلَّ آكلٍ للسُّحتِ وقائلٍ بالإثم في إثمه، فإثمُه أكبرُ من آثام الناس جميعًا، حين ترى الفاسدَ ولا تسعى لإصلاحه، حين تَرَى الظالمَ ولا تسعى لِرَدِّهِ عن ظُلْمِهِ، حين ترى الباطلَ ولا تَسعى لإزالته من الأرض، حين ترى الحقَّ ولا تسعى لإحقاقه في الوجود، فكلُّ سَاعٍ في الباطل أنت شريكٌ له، وكلُّ قائلٍ بالإثم أنت شريكٌ له، وكلُّ آكلٍ للسُّحتِ أنت شريكٌ له.. يقول سيدنا عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما-: ما في القرآن آيةٌ أشدُّ توبيخًا من هذه الآية.. أي قوله تعالى: ﴿لَوْلا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمْ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ﴾.

ويُحذِّر الرسولُ- صلى الله عليه وسلم- الأُمَّةَ إذا رأت الفسادَ ولم ترفعْ رايةَ الإصلاح، إذا رأت الظلمَ ولم تَدْعُ إلى العدل، من أن يَنزل بها العقاب العام، يقول الله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (الأنفال: 25).. حين يَنْزِلُ البلاءُ لن يأخذ الظالمين وحدهم، إنما سيَشْمَلُ الظالمين والسَّاكِتين.. يقول- صلى الله عليه وسلم-:”ما من أمة وما من قوم يكون فيهم مَن يعمل بالمعاصي يقدِرون على تغييره فلم يغيروا إلا أوشك الله أن يعمهم بعقاب منه”، ويقول- صلى الله عليه وسلم-: “إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تُوُدِّع منها”.. أي صارت أُمَّةً لا معنى لها، إذا رأيتَ الأمة تركت فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورأت الفسادَ ولم تتكلَّم، ورأت الظُّلْمَ وسَكَتَتْ، في هذه الحالة فإن الأُمَّة تَستحق من الله- تبارك وتعالى- الْمَقْتَ، يقول- صلى الله عليه وسلم-:”إنَّ أوَّلَ ما دخل النقصُ على بني إسرائيل أنه كان الرجل فيهم يعمل بالمعاصي فيقول له أخوه: اتقِ الله ودَعْ ما تصنع، ثم لا يمنعه ذلك أن يكون من الغد أكيلَه وشريبَه وقعيدَه، فضرب الله قلوبَ بعضهم ببعضٍ، ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم، فقال تبارك وتعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)﴾ (المائدة).

لِيَسْمَع هذا مَنْ يظن أنَّ الربانيةَ إصلاحٌ للذات وانعزالٌ عن المجتمع، لا بد أن يكون لنا معاشرَ الربانيين- معاشرَ أُمَّة سيد المرسلين- دورٌ في عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الإصلاح والدعوة إلى تغيير الظلم على مستوى الفرد والجماعة والأمة كلها، وإلا استحقَّت الأُمَّة أن تدخل في لعنة الله، يقول ربنا- تبارك وتعالى-: ﴿فَلَوْلا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ* وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ (هود: 116، 117).. لا بد للأُمَّة أن تَنْهَى عن الفساد في الأرض.. إن الذي يُنَجِّي الأممَ من الهلاك أن يتعوَّد أفرادُها الإصلاحَ وليس الصَّلاح.. لم يَقُل وأهلُها صَالِحُون، لكن قال: ﴿وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾.

د- أن يشارك في إصلاح الناس

إن الرَّبَّاني لا يكون ربانيًّا على الحقيقة إلا إذا كان له دورٌ في إصلاح الناس، في إصلاح بيته وأسرته وجيرانه والناس من حوله، بِيَدِه إن أمكنه التغيير بيده، وبلسانه إن أعجزه التغيير أن يكون بيده، ثم بقلبه إن أعجزه هذا وذاك، ويَتَحَيَّنُ الفرص للإصلاح.. يقول علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- لأولئك الذين يَجْبُنُون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ خوفًا على أرزاقهم أو آجالهم: أيها الناس إنما أَهْلَكَ مَنْ كان قبلكم أنهم كان يُعْمَل فيهم بالمعاصي فلا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر.. أيها الناس إن الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر لا يَقْطَعُ رزقًا ولا يُقَرِّب أجلاً.

كثيرٌ من الناس يَخشى على نفسه أن يأمر بالمعروف وأن يَنْهَى عن المنكر أو يرفع عقيرتَه بالدعوة إلى الإصلاح خوفًا على نفسه ورزقه وأولاده، بعض الناس يقول: عليَّ نفسي، يَكْفِينِي أن أكون صالحًا في نفسي، وهؤلاء الظَّالِمُون الفاسدون الله يَتَولَّى أمرَهم.

ويذكر الله- عز وجل- لنا نموذجًا من أُمَّةٍ انتشر فيها هذا الفهم الخاطئ الفاسد: كان اللهُ حرَّم على بني إسرائيل الصيدَ في يوم السبت، ثم شاءتْ حكمتُه أن لا يأتي السمك إلى المياه إلا في يوم السبت، فأرادت بنو إسرائيل أن تَعصِي أمرَ الله- عز وجل- وأن تَحتَال على أمر الله ومنهجه، فقاموا بعمل أقنية وسدود بحيث إذا جاء السَّمَك يوم السبت دخل من هذه السدود ثم سَدُّوها لِيصطادوا يوم الأحد، ويحتالوا بذلك على رب العزة- جل وعلا- فقامت طائفةٌ قوَّامَةٌ بالحق، قامت الطائفةُ الرَّبَّانِيَّة التي تَفْهَم ما معنى الرَّبَّانِيَّة، فقالوا: يا قوم أنتم تَحتَالُون على أمر الله، وهذا حرام، فقامت طائفةٌ أخرى وقالوا لهم: لِمَ تُتْعِبُون أنفسَكم؟! دَعُوا الظالم لِرَبِّهِ ينتقمْ منه، قالوا: مَعذِرَةً إلى ربكم، لعلَّ دعوةَ الإصلاح والخير أن تُقَابِلَ قَلْبًَا فيه بَقِيَّةٌ من خير، لَعَلَّ ذلك يُلامِسُ فطرةً سليمةً في قلوب الظالمين والفاسدين فيرجعون إلى ربهم.

ماذا كانت النتيجة في النهاية؟! أَنْجَى اللهُ الذين قاموا بواجبهم، وأُخِذَ الذين ظلموا بعذاب بئيسٍ بما كانوا يفسقون، وفي ذلك كله يقول الله تعالى:﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُون﴾ (الأعراف: 163- 165).

لا حياةَ لأُمَّةٍ يَرى أفرادُها أنْ لا دورَ لهم في عملية الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل إن النبي- صلى الله عليه وسلم- يُبيِّن لنا أن المجتمع الذي نَحيا فيه كالسفينة ما لم يكن هَمُّ كل مَنْ فيها الحفاظُ على سلامتها فإنها ستغرق بالجميع، فيقول- صلى الله عليه وسلم-: “مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا (أي اقترعوا) على سفينة، فأصاب بعضُهم أعلاها وبعضُهم أسفلَها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مَرُّوا على مَنْ فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقْنا في نصيبنا خَرْقًا ولم نُؤْذِ مَنْ فوقَنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا”. وفي روايةٍ: “نَجَّوْا”؛ أي كانوا سَبَبًا في نجاة الآخرين.

فالربانيون من أولى مهامهم أن يخرجوا وأن لا يكتفوا بالعبادة الشخصية، إنما يخرجون إلى البشرية مُعلِّمين ومُطبِّقين لأمر الله، آمرِين بالمعروف نَاهِين عن المنكر.

الجهاد في سبيل الله من أعظم الطاعات

هـ- الجهاد والمُجَاهدة

الربانيون لا يكونون ربانيين حقًا إلا إذا جاهدوا في ذات الله عز وجل أنفسَهم والمنافقين والكفارَ، لا بد أن يُجاهدوا ليكونوا ربانيين، كما قال الله- تبارك وتعالى-: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران: 146) فلا يَحمل رسالةَ الأنبياء إلا الربانيون الذين أَدْرَكُوا أن إصلاحَ البشرية مهمَّتُهم؛ ولهذا يخرجون ويقاتلون مع الأنبياء ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ﴾ (يوسف: 108)، هؤلاء الذين يخرجون على بصيرةٍ يُجاهدون في الله عزَّ وجل بكل صور الجهاد، يُجاهدون أنفسَهم ومَن حولهم، ويَدْعُون الناسَ إلى ربهم، ولا يُبَالُون في سبيل هذا الجهاد بما يَتكبَّدون من تضحياتٍ، ولا بما يُواجههم من تهديدات، ولا بما يكون أمامهم من عقبات، كما يقول ربنا تبارك وتعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران: 146)، في قراءةٍ رَجَّحَها الإمامُ ابن جرير الطَّبَرِي يقول: (وَكأي مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ)؛ أي وصل الحال بالدعوة وأصحابها إلى أن تعرَّض عدد كبير للقتل، لكن هذا لم يَفُتَّ في عَضُد الربانيين الآخرين، ولم يَدْفَعْهُم إلى الاستسلام للباطل، أو السُّكوت عن الحق، أو الرُّكُون أو التَّضَعْضُع، إنما صَبَرُوا، والله يُحب الصابرين: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ (آل عمران: 147)، فهم يَستَمِدُّون القوةَ والعَونَ من الله ويَعلَمُون أنَّ اللهَ نصيرُهم، ولِذَا فهم يلجأون إليه وقتَ الشدائد كما أنهم في الضَّرَّاء يعتصمون به.

إنَّ الرَّبَّانِي الذي يدعو إلى الخير والمعروف ويَنْهَى عن المنكر ويُقَاوم الشَّرَّ والفسادَ يجب أن يَثْبُتَ قدمُه في سبيل الله عزَّ وجل، مهما تكن التضحيات؛ بل إنَّ الله تبارك وتعالى عَابَ على بعض أصحاب محمد- صلى الله عليه وسلم-، أنه عندما أُشِيعَ أنَّ النَّبيَّ – صلى الله عليه وسلم- قُتِل في غزوة أُحُد، قال بعضهم: عَلامَ نُقَاتِل؟ لَقَدْ قُتِلَ مُحَمَّدٌ!. فنَزل قولُ الحق تبارك وتعالى يَعِيبُ عليهم ذلك: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ (آل عمران: 144)، إنَّ حامل راية التَّوجِيه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا سَقَط وَجَبَ على الأُمَّةِ أن تَرفع رايتَه، هذا هو معنى الربانية.

وإجمالاَ: فليس الرباني هو مَنْ ينعزل على نفسه في بيته ذاكرًا مُسبِّحًا تَالِيًا للقرآن، قائمًا لليل، عابدًا لله، ثم يعتزل الناس، ولا يكون له شأنٌ بما في الحياة من ظُلمٍ أو فسادٍ، لا يُقَاوم الفسادَ، ولا يُحَارِبُ الظلمَ، ولا يأمر بمعروف ولا يَنهى عن منكر، هذه هي الرَّهْبَانِيَّة التي حَذَّرَنا منها الله عزَّ وجل، والتي تقول: دَعْ ما لِقَيْصَر لِقَيْصَر ومَا للهِ للهِ، أما الرَّبَّانِيَّة فهي عبادةٌ وذكرٌ وأورادٌ وتسبيحٌ واتصالٌ برب العالمين، ثم خروجٌ إلى الحياة لإصلاحها، وسعيٌ لنشر العدل ومنهج الله تبارك وتعالى فيها، ومقاومةٌ لرذائل الأخلاق وأسباب الفساد، هذه هي الربانية والروحانية الحقيقية، روحانيةٌ اجتماعيةٌ لا انعزالية، إيجابيةٌ تُحرِّك صاحبَها إلى فعل الخير وإصلاح النفس والآخرين، لا روحانيةٌ فرديةٌ تدعو صاحبَها لأنَّ يترك الحياةَ وما فيها والدنيا وما عليها، فهذا خلافُ منهج الله ورسله، وهل كان عمل الأنبياء إلا معاناةَ الخلق؟ هل كان عملُ الأنبياء أن يأخذوا الرسالةَ ويقعدوا في بيوتهم، أم أن عملهم كان هو الانتشارَ بين البشرية لإصلاح فسادها، وتقويم عوجها؟ ما من نبيٍّ جاء إلا ودَعَا إلى تقويم العِوَج الموجود ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ﴾ (هود: 84).

هذه هي دعوة الربانيين الذين أمرنا الله تبارك وتعالى أن نكون منهم، وهي عملٌ يَجمع الصَّالِح إلى الصَّالِح، واليَد المُصْلِحَة إلى اليد المُصْلِحَة، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، الصَّالِحُون والمُصْلِحُون في حاجةٍ لأن يَضَع بعضُهم يدَه في يد بعض، فالجاهلية المُنَظَّمَة المُجْتَمِعَة تحتاج إلى إسلام رَبَّانِي مُنظَّم مُجْتَمِع لِيُواجِهها، الكافرون المُفْسِدُون الذين يعملون ضمن عصابات وجماعات لا يمكن أن يُقاوَموا إلا بِأُمَّةٍ مُجتمِعَة، يد بعضها على يد بعض كما قال الله عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ (الأنفال: 73).

سَيَحِلُّ الفساد في هذه البشرية ما لم يَجْمَع الصَّالِح نفسَه إلى الصَّالِح والمُصْلِح إلى المُصْلِح، ويتعاون الجميع على إنقاذ السفينة ويستنجد الجميع بعضه ببعض، فإنَّ كَدَرَ الجماعة خيرٌ من صَفْو الفرد، ولأَنْ تُخالِطَ الناسَ وتصبرَ على أذاهم، وتَقُومَ بالإصلاح وتَتَحَمَّلَ فيه التضحيات، خيرٌ من أن تَنْعَزِلَ وتَسْلَمَ من شُرور الناس ومن أَذَاهُم.

كان اثنان من الصَّالِحين يَسِيرَان معًا فَرَأَيَا أُنَاسًا على الفساد، فقال أحدهما للآخر: تعالَ بنا نَسِرْ إلى هؤلاء القوم الفاسدين لِندعوَهم إلى الله، والإقلاع عن الفساد، فقال الآخر: يا أخي إنما أُحِبُّ أن يَصْفُوَ لي قَلْبِي، ولا أُرِيدُ أن أَنْشَغِلَ بغيري، وما عليَّ لو قَعَدْتُ أَعْبُدُ اللهَ تبارك وتعالى ولا يُصِيبُني من أذى هؤلاء الناس شيءٌ. فقال صاحبُه: لكني والله لا أرى يُنْجِينِي من عذاب الله عزَّ وجل إلا أن أذهبَ فآمُرَ بالمعروف وأَنْهَى عن المُنكر، وأُخَالِطَ الناس وأصبرَ على أذاهم، فذلك خيرٌ لي من أعتزلَ ولا أصبرَ على أَذَاهُم.

عَنْ‏ ‏أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه-‏ ‏قَالَ: ‏مَرَّ رَجُلٌ مِنْ ‏أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ‏- صلى الله عليه وسلم-‏ ‏بِشِعْبٍ فِيهِ عُيَيْنَةٌ مِنْ مَاءٍ عَذْبَةٌ، فَأَعْجَبَتْهُ لِطِيبِهَا، فَقَالَ: لَوْ اعْتَزَلْتُ النَّاسَ فَأَقَمْتُ فِي هَذَا ‏ ‏الشِّعْبِ‏! ‏وَلَنْ أَفْعَلَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، ‏فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ‏- صلى الله عليه وسلم- ‏‏فَقَالَ: “‏لا تَفْعَلْ، فَإِنَّ مُقَامَ أَحَدِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاتِهِ فِي بَيْتِهِ سَبْعِينَ عَامًا. أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَيُدْخِلَكُمُ الْجَنَّةَ؟‏ ‏اغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ. مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏ ‏فَوَاقَ نَاقَةٍ‏ ‏وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ”. قَالَ الإمام‏ ‏الترمذي:‏ ‏هَذَا ‏‏حَدِيثٌ حَسَنٌ.

هذا هو الإسلام وهذه هي الربانية. والله العظيم نسأل أن يجعلنا من الربانيين لا من الرهبانيين، وأن يكتب لنا التوفيق إلى ما يُحِبُّه ويرضاه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أضف تعليقك