• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

كنت أتصور أن فعل التطبيع مدان في ذاته، بصرف النظر عن نوعية المطبّع ومكانه، ودرجة قربه أو بعده، غير أنه تبين لي أن الكيل بمكيالين، وثلاثة أحيانًا، هو الغالب في الحكم على عملية التطبيع.

أنت احتفلت واحتفيت واستقبلت بسعادة غامرة كلمات الرئيس التونسي الجديد، قيس سعيد، التي يعتبر فيها ممارسة أي شكل من التطبيع، الاقتصادي والثقافي والسياسي، جريمة أخلاقية، تصل إلى الخيانة العظمى، وتنفست الصعداء وامتلأت فخرًا بأن حاكمًا عربيًا يعيد إلى المعاني والقيم وضوحها واتساقها، ويتكلم لغة الشعوب المدافعة عن الحق والعدل .. وانبريت ترد على أولئك المطبّعين الأشداء، من نوعية ذلك الدبلوماسي المصري الذي انتهت فترة خدمته الرسمية في الكيان الصهيوني، فبحث عن وظيفةٍ في هيئة دولية لكي يبقى هناك لا يغادر.
أنت اعتبرت أن التعاون بين نظام عبد الفتاح السيسي والكيان الصهيوني في صفقات الغاز الطبيعي جريمة وخيانة، مهما كانت جدواها الاقتصادية، واعتبرت، كما سجلت سابقًا، أن القصة ليست الغاز الطبيعي، اكتفاءً أو عجزًا، ذلك أن الغاية الكبرى من هذه العملية أن تكون إسرائيل ممتدة في عمق مصر، عبر الأنابيب أو من خلال الوجود العسكري المشارك في تدمير سيناء، وأن موضوع الغاز يتجاوز كونه عملية اقتصادية، تحكمها اعتبارات الربح والخسارة، إلى حاجة عاطفية لدي نظام السيسي.
والأمر ذاته ينطبق على ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، الذي يعرف أن التطبيع هو الجسر الذي سيعبر عليه إلى العرش الأكبر، ومن ثم فإن "مشروع نيوم" لا يمثل احتياجًا اقتصاديًا بقدر ما هو يمثل ضرورة سياسية، أو فاتورة واجبة السداد للكيان الصهيوني، كي يستتب له حكم السعودية.
أنت اشتعلت غضبًا من أنباء الاغتيال المفجع للمواطن السعودي، عبد الرحيم الحويطي، واعتبرته شهيد الدفاع عن أرضه وأرض قبيلته التي أراد بن سلمان مصادرتها وتقديمها قربانًا للمشروع الصهيوني "نيوم".
قلت سابقًا إن الحلم الصهيوني، بشرق أوسط جديد، كما صاغه ووضع خطوطه العريضة شيمون بيريز يسير على قدمين الآن، واحدة في القاهرة (عبد الفتاح السيسي) والثانية في الرياض (محمد بن سلمان) عبر مشروعه، المنقول من كتاب شيمون بيريز "الشرق الأوسط الجديد"، حين حدد الهدف في العام 1993 بالقول "بالنسبة للشرق الأوسط، فإن الانتقال من اقتصاد صراع إلى اقتصاد سلام سوف يعني حصر المصادر لتطوير بنية تحتية تلائم هذا العصر الجديد من السلام، وأن بناء الطرق وتمديد خطوط السكك الحديدية وتحديد المسارات الجوية وربط شبكات النقل وتحديث وسائل الاتصالات وتوفير النفط والماء في كل مكان وإنتاج البضائع والخدمات عن طريق الكمبيوتر، سوف يفتح حياة جديدة في الشرق الأوسط". 
أنت رفضت كل هذه الممارسات التطبيعية الممجوجة، وأدنتها بأشد العبارات، لكنك غير مستعد لتقبل اعتبار أن الصفقات بين أنقرة وتل أبيب، في مجال المستلزمات الطبية لمواجهة وباء كورونا نوعًا من التطبيع، حتى وإن كان ملفوفًا في غلافٍ إنساني جذاب، كالقول إن تركيا اشترطت لتمرير الصفقة مع إسرائيل، أن تسمح الأخيرة بإدخال مساعدات طبية للفلسطينيين، وتتجاهل أن جوهر المسألة هو أن هناك تعاونًا أو تبادلًا تجاريًا، بين طرف أنت تراه السند والزعيم، بل يتمادى بعضهم ويبالغ في اعتباره الخليفة، وطرف آخر هو العدو في الماضي والحاضر والمستقبل.
كما أنك تستخدم المبرّرات ذاتها التي ساقها كل الذين ساروا في طريق التطبيع منذ عقود، والنتيجة كما ترى : مكاسب صهيونية متراكمة وخسائر عربية وفلسطينية متفاقمة.
وبعيدًا عن الحسابات البراغماتية، دعني أعيد عليك تساؤلات قديمة: هل يختلف الحكم بصحة الفعل وأخلاقيته باختلاف الفاعلين؟ بصيغة أخرى: هل هناك سرقة حلال وسرقة حرام، وبالقياس ذاته: هل هناك تطبيع مقبول وتطبيع مرفوض؟ بمعنى آخر: إذا ارتكب أحد الذين نحبهم فعلاً، كان دائماً مستهجناً منا، هل ندافع عنه، بينما إذا ارتكب أحد الذين لا نطيقهم الفعل ذاته، نرجمه بالحجارة؟!
مرّة أخرى، لن أناقشك فيما تراها اختلافات جوهرية بين رئيس دولة جاء بانتخابات ديمقراطية ويحقق نجاحات لا ينكرها أحد في السياسة والاقتصاد، وحتى على مستوى نصرة القضايا الإنسانية، وحكام صعدوا إلى الحكم بمذابح وجرائم ضد الإنسانية واتكاء على الكيان الصهيوني، ولكن القضية الآن أن الفعل واحد، هنا وهناك ويحقق ما تصبو إليه إسرائيل من تسخينٍ في ملف التطبيع، بحيث يكون بعضه مقبولاً، إذا جاء من أردوغان، ويوصف بأنه دهاء سياسي، فيما يبقى بعضه الآخر مرفوضاً، ويعد خيانة وعمالة، إذا كان مصدره السيسي وبن سلمان، مع أن المستفيد هو مشروع شيمون بيريز والآباء المؤسسين للاحتلال الصهيوني.

أضف تعليقك