• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

كورونا، على ضراوته وتوحشّه، إلا أنه فيروس أخلاقي للغاية، متحضر وموضوعي ونزيه، بالمعايير المعروفة، كل البشر أمامه سواء، أهدافًا مستباحة، لا يفرّق بين شمال وجنوب، ولا يختار ضحاياه حسب لون البشرة، أو الجنس، أو العرق، أو المركز الحضاري.

يعربد في أوروبا، كما يفعل في آسيا وأفريقيا، غير عابئ بالوضع الاقتصادي، أو الثقل السياسي، يتحرّك من منطلقات اشتراكية جداً، ويوزّع الخراب بالتساوي، وبشكل عادل، بحيث يبدو أكثر إنسانيةً من البشر، حكامًا ومحكومين، وأعني أولئك الذين استخرجوا من أعماق الذات السحيقة كل جراثيم الاستعلاء والعنصرية، وراحوا يتنابزون بالكورونا، في حفل انتحار جماعي صاخب.

على أن العنصرية هذه المرّة ليست فقط تطاوسًا من شمال على جنوب، أو خيلاء فردية فارغة تعتمد اللون معيارًا، وإنما تجاوزت ذلك إلى عنصريةٍ كريهةٍ يمارسها أفراد على شعوب بكاملها، سواء كانت هذه الشعوب شعوبهم، أم شعوب دول أخرى، وهي العنصرية الاستعلائية ذاتها التي يمارسها حكام ومسؤولون على شعوبهم.

كاتبة سودانية أصابتها لوثة من هذا النوع الخطير، جعلتها تكتب مثل جائحة هوجاء تصف الشعب المصري كله بانعدام النظافة، وتحمل مصر، الحكم والشعب، مسؤولية انتشار وباء كورونا في كل العالم.

أتفهم تمامًا أن ينتقد أي كاتب نظامًا عربياً، بل ويكيل له الاتهامات بالفساد، وسوء الأداء، وتعريض المنطقة للخطر، لكن حين يمنح كاتب نفسه حرية إلقاء أوساخه الفكرية وقاذوراته النفسية على شعب كامل، فنحن هنا لسنا بصدد شططٍ في النقد العنيف، بل نكون أمام جريمة عنصرية تنتهك القوانين، وتدوس بقدمين ملوثتين على كل معيار إنساني، أو أخلاقي.

تقول الكاتبة في بداية مقالها القبيح "إن ما يحدث في مصر من انتشار عالٍ للفايروس مقارنة بالدول الأخرى ليس مرده للتعداد السكاني الكبير، والازدحام الرهيب، فالصين أكثر ازدحاماً والأكبر سكاناً بتعداد يفوق ملياراً و(800) مليون نسمة. ولكن سبب انتشار الفايروس في مصر مرده الى انعدام ثقافة النظافة، سلوكيات بسيطة مثل الاستحمام والسواك وغسل الأيدي بالصابون، والعطس في منديل، تكاد تكون ضئيلة".

هنا أنت بصدد اتهام عنصري مقيت ضد شعب، لا أمام نقد لأداء حكومة، أو سياسات نظام، وأظن أن قوانين وأعراف الكتابة والإعلام في أي مكان في العالم تجرم مثل هذا الخطاب البغيض من الكاتبة السودانية، والذي لو دققت فيه مليًا ستجده لا يخدم سوى النظام المصري، ويلتقي في روحه وأهدافه مع ما تردده الحكومة المصرية والميديا البائسة المرتبطة بها، إذ لا يختلف المضمون كثيرًا عما تذهب إليه وزيرة الصحة المصرية بقولها "لو فشلنا في مواجهة كورونا سيكون السبب سلوكيات الناس".

وكأن الحكومات تفعل كل شيء على الوجه الصحيح، لكن العيب في الشعوب، ليصبح المطلوب في المحصلة إبادة الشعوب، كي يعيش استبداد الحكومات والفيروس في تبات ونبات.

تختم الكاتبة بكلام أكثر قبحًا مما بدأت به حين تقول "أن سلوك النظافة في مصر ما كان ليثير اهتمامنا لولا أن المغتربين من أبناء شعبنا قد دفعوا الثمن باهظاً، وذلك بسبب لجوء المصريين للسفر إلى الدول التي تم حظرهم منها عبر السودان، مما أدى إلى أن تغلق تلك الدول أبوابها في وجهنا".

و"بسبب (تلصق) المصريين فينا، والسفر عبر بوابتنا، حتى أنه لم يكن هنالك ذنب للباخرة السودانية (مسرة) التي لم يسمح لها بالاتكاء على ميدان جدة، سوى أن بها اثنان من المصريين".

ولو لم يأتِ الكلام في صحيفة سودانية لظننت أنه سمومٌ صهيونية تشبه التي تبث يوميًا على مواقع التواصل الاجتماعي لتأليب شعوب الدول العربية ضد بعضها بعضا، وإثارة نعرات بغيضة من عينة "شعبنا في مواجهة المصريين"، ناهيك عن فجاجة التعميم التي لا تعبر عن بلادة علمية في الرصد والتحليل بقدر ما تعبر عن فقر في الإحساس، تمامًا كما فعل مذيع مصري تربى في مراتع فساد واستبداد زمن حسني مبارك، حين خرج على شاشة مصرية قبل شهور يتهم الشعب المصري بالقذارة، ويطالبه بالاستحمام.
تتخذ العنصرية شكلًا أكثر أناقة وتتخفى في خطاب فلسفي يبدو موزونًا من بعيد، لكن بالاقتراب منه تكتشف أنه بدائي للغاية في ممارسة التطاوس والاستعلاء، كما يبدو في عنوان لافت لمجلة لو بوان الفرنسية يقول "أوروبا أصبحت العالم الثالث الجديد" مع فيروس كورونا، وفي التفاصيل يرى الفيلسوف المثير للجدل، ميشال أونفري، أن: "أوروبا أصبحت العالم الثالث الجديد"، مرجعًا ذلك إلى السياسة العبثية لحكام أوروبا الذين لم يعرفوا كيف يتعاملوا مع الجائحة.

ثم يحث لكي نواجه كورونا على إعادة قراءة مونتين، ومارك أوريل، وسينيك، كما يدعونا لإعادة الاستمتاع بأفلام "تاتي"، ونتخلى عن المسلسلات الساذجة، وأن نتعاطى أكثر للأشرطة الوثائقية، كتلك التي تتحدث عن آلان جوبير وهيكتور أوبالك.

الشاهد أن الرجل وهو يفلسف رداءة الأداء الأوروبي بمواجهة الفيروس، قرّر بجملة واحدة أن يعرف الرداءة بأنها "العالم الثالث".

عنصرية أخرى في أزياء باريسية فاخرة، لكنها لا تختلف عما ردّده عبد الفتاح السيسي سابقًا وهو يطلب من ماكرون والأوروبيين أن ينظروا إلى حقوق الإنسان المصري والعربي بمعايير تقييمهم لحقوق الإنسان الأوروبي.

أضف تعليقك