• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانيتين

بقلم.. طه خليفة 

لم يعد هناك وقت طويل لتخوض مصر معركة سد النهضة، هذا إذا كانت فكرة المعركة، أو رائحتها، واردة.

ما كان ممكناً فعله قبل تسع سنوات عندما شرعت إثيوبيا في العمل الجدي لبناء السد لم يعد كذلك اليوم، وما كان مُتاحاً قبل خمس سنوات صار صعباً الآن، ففي عام 2015 وقعت مصر على اتفاق المبادئ، ومعظم التحليلات والآراء اعتبرت أن هذا الاتفاق كبّل القاهرة، وجردها من حرية الحركة للحفاظ على حقوقها في المياه وفقاً للقوانين والمعاهدات والأعراف الدولية.

مصر قيدت نفسها بنفسها، ولم يعد بمقدورها أن تقاضي إثيوبيا، أو تضغط لمنع الهيئات الدولية المانحة التوقف عن تمويل السد، وإذا لم تكن وقعت هذا الاتفاق، وخاضت معركة على كافة المستويات طوال السنوات الخمس الأخيرة، لكان الوضع اختلف كثيراً عما هو حاصل اليوم من مراوغة ومماطلة أديس أبابا، وعدم تقديرها للتجاوب المصري، والوساطة الأمريكية.

لا رأي ولا مشورة:
الوقت نفد تقريباً، والسد في الأمتار الأخيرة، وإثيوبيا أعلنت أنها ستبدأ عملية الملء بالمياه بعد أربعة أشهر فقط مع استمرار تشييد السد، وأنه لم يعد لمصر غير البيانات والتصريحات الرسمية التي تنتقد وتنتد، ولم يعد للمصريين غير الغضب، فليس بأيدي المواطنين شيئ، فلا رأي أو مشورة لهم، ولا معرفة صريحة بحقائق ما يجري، وحديث البعض عن مؤامرة إثيوبية إسرائيلية أمريكية على مصر يزدهر دوماً مع الإخفاق في حل الأزمات، ولا ندري هل يتآمر الأصدقاء والحلفاء على الصديق والحليف الوفي؟ وإذا كانت هناك خيوط مؤامرة، فلماذا لا نكشفها رسمياً ونُسقطها، وهل بالضرورة أن نظل لعبة للتآمر، ويظل المتآمرون يفوزون علينا دوماً؟

ومعركة اللحظة الأخيرة، إذا كانت هناك رغبة في خوضها، قد لا نجني ثمرة منها في حال إدارتها بنمط التعامل غير الفعال طوال السنوات الأخيرة، وخاصة بعد أن قال وزير الخارجية الإثيوبي بكل صلف وتحدٍ: "إن الأرض أرضنا، والمياه مياهنا، والمال الذي نبني به السد مالنا، ولا أحد يستطيع منعنا من تشغيل السد".

وهذه لغة استقواء أيضاً أمام لغة تهدئة وتلطيف ومرونة وطبطبة مصرية، ولغة سكون وسكوت أحياناً.

ليس بالضرورة أن تكون المعركة التي يتبدد وقتها، وتتقلص ساحاتها، عسكرية بالأساس، رغم أن الدول تلجأ في لحظات العدوان عليها، وتهديد أمنها القومي، إلى الردع الذي يصل لاستخدام القوة.

إسرائيل دولة احتلال ظالمة، لكنها لا تمرر إطلاق صاروخ واحد بدائي عليها من غزة، دون الرد عليه، رغم أنه لا يوقع خسائر، وتمارس هواية تعقب وقصف أهداف عسكرية في سوريا للإيرانيين والسوريين وحزب الله دون تردد، كما تضرب في العراق البعيد عنها.

 وأمريكا تنسف من يمس هيبتها، أو يتحرش بها، وفي يناير الماضي اغتالت القائد العسكري الإيراني الكبير (قاسم سليماني) والقائد الميليشاوي العراقي (أبو مهدي المهندس) في قلب بغداد رداً على مقتل مقاول أمريكي في قصف على قاعدة لها، ومحاصرة سفارتها بواسطة جماعات شيعية بإيعاز إيراني، وغزت واحتلت أفغانستان والعراق دون توفر مبررات كاملة ومقنعة بأن للأولى دور في هجمات سبتمبر، وأن الثانية تمتلك أسلحة دمار شامل.

 وروسيا تضرب بقسوة من يلعب في مناطق نفوذها وفضائها الجيوسياسي كما فعلت في الشيشان وأوكرانيا وجورجيا ودول آسيا الوسطى، وهى تُمدد نفوذها إلى سوريا وليبيا وتدافع عن مصالحها فيهما.

ليست البلدان الكبرى وحدها التي تضرب دفاعاً عن مصالحها، كل بلد يجد نفسه مستهدفاً في كرامته وسيادته ومصالحه وأمنه القومي ومرتكزات وجوده لا يصمت أو يستكين طويلاً، وإذا لم يكن يرغب في استخدام القوة العسكرية للردع فهناك وسائل القوة السياسية والاقتصادية والأمنية الاستخبارية، وهناك وسائل أخرى لإظهار الغضب والقدرة على الفعل والتأثير.

تركيا تلجأ للوسيلتين؛ القوة السياسية المقرونة بالردع العسكري، كما تفعل في سوريا وليبيا حالياً، فهى عندما وجدت مصالحها وأمنها القومي يتعرضان للمخاطر استخدمت خطاباً سياسياً حاداً، وتحركت عسكرياً دون أن تعبأ بأحد، لا أمريكا، أو روسيا، أو الأوربيين والعرب، وفرضت في البلدين أمراً واقعاً جديداً لفائدتها.

وإيران لم تلجأ للنعومة مع اغتيال سليماني، هاجت سياسياً، واستنفرت كل طاقاتها وأذرعها في المنطقة، وملأت الفضاء العالمي ببيانات وتصريحات سياسية هجومية شرسة عبأت بها شعبها وأنصارها وكانت عناوين رئيسية في الميديا العالمية، وضغطت على حليفها العراقي لإصدار قرار برلماني سياسي لإخراج القوات الأمريكية من العراق، كما وجهت ضربات صاروخية على قواعد أمريكية بالعراق، وإذا لم تكن الضربات ذات قيمة تدميرية مؤثرة، لكنها كانت ضرورة معنوية وسياسية، يكفي أنها ترد على القوة العظمى.

لمجابهة تركيا:
الغريب أن مصر تطبق مبدأ الرد والتدخل والتحرك في جوارها الليبي، وفي غزة تحت مبرر الدفاع عن أمنها القومي، وتتحرك سياسياً ضمن حلف يضم اليونان وقبرص، وأحيانا إيطاليا وفرنسا، لمجابهة تركيا، كما تواجه الأتراك في سوريا أيضاً، وتكثف تحركها مع السعودية والإمارات على السودان ليدور في فلك هذا الحلف الذي يقاطع قطر كذلك، لكن لماذا الاستسلام للحل التفاوضي فقط في إثيوبيا، وقد ثبت بعد سنوات أنه مماطلة وغير منتج ؟، ولماذا كان التوقيع على اتفاق المبادئ في 2015 والذي لم تحترمه إثيوبيا ونزع من القاهرة أوراق قوة دولية لحقوقها في نهر النيل؟، ولماذا تكتفي فقط بإظهار حسن النية ومد الأيادي بينما أديس أبابا تتمنع وتتمرد وتتنمر وتتلاعب وترفض وتسعى لفرض الأمر الواقع في قضية السد؟

تستنفد مصر كل رصيد التهدئة والتفاوض المُسِتهلك للوقت بلا فائدة حقيقة، والمفترض أن يكون لديها خطة بديلة، وقد وجب تنفيذها فوراً، والقيام بحملة هجومية عكسية، وليس دفاعية، لإرباك الخصم المعاند ومحاصرته من كل الاتجاهات، وفرض واقع جديد مغاير عليه، وإذا لم تكن هذه الخطة موجودة فإنها ستكون الطامة الكبرى، وسيكون التفاوض هو الفخ الذي وقعت فيه، وهنيئاً لإثيوبيا بالسد، وبنهج السلطة.

رغم ما يُقال عن الرئيس الراحل مرسي، لكنه أشرك المجتمع السياسي في القضية للإطلاع على أفكار وخيارات متنوعة تعكس توجهات مختلفة، وإذا كان قد أفسد هذا اللقاء إذاعته على الهواء خطأ أو عمداً، لكن الإيجابية فيه هو طرح حلول وبدائل ومقترحات بعضها كان صالحاً لتشكيل خطة عمل مضادة، وقد أزعج هذا الاجتماع إثيوبيا.

حالياً، ماذا يحدث؟، ومن يفكر ويخطط؟، هل وزيرا الري والخارجية فقط، أم هناك في الرئاسة شخصيات للتفكير والتخطيط وتقديرات المواقف؟، وإذا كانوا موجودين، فمن هم؟، وماذا يقولون ويفعلون؟، ولماذا لم يتم تنظيم اجتماعات لهم ولأهل الاختصاص من النخب الوطنية المحترمة لوضع سيناريوهات المعالجة للأزمة مبكراً؟

خطط عسكرية:
وماذا عن خطة التحركات الدولية في العواصم الكبرى، والبلدان الممولة للسد، والأمم المتحدة، ومجلس الأمن، والبنك الدولي، وغيرها؟، وماذا عن اتفاقية المبادئ؛ هل ستظل القاهرة متمسكة بها؟، لماذا لا تُحال فوراً للبرلمان ليناقشها ويهدد بإلغائها أو يلغيها بالفعل باعتبار أن إثيوبيا لم تلتزم ببنودها لكي تتحرر مصر من قيودها وتتوفر لها حرية الحركة والتصرف؟

وإذا كانت هناك خطط عسكرية تتسم بالسرية قد يتم اللجوء لها في اللحظة الأخيرة الحاسمة وبعد استنفاد كل الخيارات السياسية السلمية، فإنه يمكن تسريب إشارات بشأنها مضامينها استناداً إلى أن الدفاع عن النفس بكل الوسائل الشرعية بات أمراً حتمياً، ومثلاً، هل نعتبر الاجتماع العسكري الأخير إشارة لما نقول؟، أم إن القوة الخشنة مستبعدة تماماً من عقل وحسابات السلطة؟، وتقديري أن مجال القوة كان ممكناً في فترة سابقة، لكنه بات شديد الصعوبة والتعقيد اليوم.

شرعية الأنظمة، إذا كانت مهزوزة، تترسخ بخوض المعارك على جبهاتها المختلفة في القضايا التي تتعلق بحياة أو موت شعوبها، ونجم السادات صعد، واستقر في الحكم بعد إقدامه على شن الحرب عام 1973، والانتصار فيها.

وشرعية الأنظمة، إذا كانت ثابتة، تهتز عندما تُحجم عن خوض المعارك في القضايا المفصلية، أو تتعرض للهزيمة فيها، وقد مات عبدالناصر سياسياً وتآكلت زعامته بعد كارثة 1967القاسية.

سد النهضة، قضية القضايا لمصر والمصريين، وعدم تحقيق الأهداف المرضية فيها لا يقبل الأعذار، أو التبريرات، أو التسليم بالواقع، أو استحضار وتغذية نظرية المؤامرة، كما لا تنفع البروباجندا الصاخبة للتغطية عليها.

أضف تعليقك