• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم.. عصام شعبان

مات حسني مبارك الذي ظنّت أجيال متتالية أن حكمه لن ينتهي إلا بموته. حكم المصريين ثلاثين عاماً من عمره الذي تجاوز التسعين، وخضع رحيلُه لعملية توظيف، وإعادة إنتاج لنظامه، تجاوزت تبرئة هذا النظام إلى الاعتراف والاحتفاء بإنجازاته وإنكار مثالبه. وفي السياق، وصف من ثاروا عليه بأنهم متآمرون أو أخطأوا التقدير في أحسن الأحوال، منساقين لإشاعات، واستغلال. في مشهدٍ عبثي بامتياز، تنتج حلقة جديدة من حلقات الانتصار لمبارك ونظامه وتبجيله إلى حد الإجلال. وظفت الدعاية المكثفة، بما احتوته من خلطٍ للحقائق، واجتزاء للتاريخ، بغرض تزييف الوعي، كذلك استخدمت أساليب في الإقناع والاستمالة، أغلبها يستهدف التأثير في المشاعر بطرق متخلفة، تكرّر فيها أن رحيل مبارك تزامنت معه رسائل ربانية وقدرية تنتصر له، ما يشير، بجانب عدم موضوعية الدعاية، إلى غلبة الإغراق في الغيبيات من المنتحبين لموت مبارك والمحتفين بنظامه، سواء كانوا من مؤيديه القدامى أو من مؤيدي النظام الحالي. وفي هذا المشهد دلائل كاشفة لحال الدولة في مصر والنخب ومآلات ثورة يناير أيضاً. 

لم يحاول مبارك، وريث نظام يوليو بعد أنور السادات، العودة إلى السياسة، مدركاً بخبرة السنين، أنه قُدّم كبش فداء لاستمرار النظام الذي لم يتغير بعد ثورة يناير، حتى وإن تضرّرت بعض دوائره. ولأن النظام الحالي يعتبر نفسه وريثاً لدولة مبارك، تعامل مع موت مبارك بتقدير رسمي، وإشارات التقطتها دوائره ومؤسسات الدولة، فمجلس النواب ومشيخة الأزهر ودار الإفتاء والأحزاب، ومشايخ وقسس، ومنظمات مجتمع مدني تنعى مبارك، وتشارك في مشهد النحيب العام.

وسائل الإعلام من قنوات وصحف تردد مقولاته، وتتوقف عند محطات حياتية وسياسية، وتصبح خرائط التلفزيونات مكرّسة لبثّ أغانٍ وأفلام تسجيلية وموسيقى حزينة، تُعاد مئات المرات. أما كتّاب الرأي فغنوا وكتبوا واستُكتبوا لبيان إنجازات مبارك، وتفنيد سماته الشخصية، منها اكتشافات جديدة، كالخجل في النقد، ونظافة اليد وبساطة العيش. وقد سبق أن قال مبارك إن الكفن ليس له جيوب، ولكن لا أحد يستطيع الإجابة، أو التحديد بدقة كم ملياراً كنزها مبارك وأسرته خلال ثلاثين عاماً من الحكم، بما فيها من عوائد صفقات السلاح. بينما تعرّف اكتشافات جديدة الشعب المصري على مبارك من جديد، كالبساطة والزهد، وهي صفة تشهد عليها قصور بناها له ولأسرته، أهدرت فيها الملايين، لكن بعضهم يتجاهلها. لا بد أن يكون الرئيس وولي العهد شريفاً، حتى وإن صدر حكم قضائي يدين جانباً من فسادهما. لعنة القصور لم تتوقف، وسمِّها تماسّاً متصلاً بين الحاضر والماضي، أو قواعد الجدل. الجديد يولد من القديم، ولكن هنا للأسف ليس الجديد نقيضاً للقديم.

رأى أنصار مبارك الجدد أنه حين أرغم على التنحّي واستجاب، كان موقفه هذا دليل وطنية منه، لأنه لم يرد سيناريوهاتٍ محتملة من نشوب الصراع الأهلي، بينما كان الجميع يعرف أن الدولة وأجهزتها حسمت موقفها من التخلص من مبارك، لكي لا تفقد كل شيء، وتستطيع تجاوز تحدّي الثورة، وتلتقط الأنفاس لإعادة إنتاج نفسها. تعلن الحداد على مبارك، والجنازة عسكرية، والميت مخلوع، ولولا هزيمة الثورة لما صار هذا المشهد.

نخب وكتّاب وسياسيون ورجال دولة وأعمال وفنانون ومشايخ وقسس وبهلوانات في سلك الإعلام يعلنون الوفاء لمبارك، ويتنكّرون للثورة التي كانت بأقلام بعضهم طريقاً وفرصة للحرية والتقدم، ومعجزة شعبية، قادها الشباب الشجعان الذين يصطفون في التباكي على عصر حسني مبارك، كان بعضهم يتغنّى بالثورة بالأمس، طمعاً للحاق بها، وشغل مساحة فيها إذا انتصرت.

تشهدت مصر، منذ أيام، معزوفة التغنّي بمبارك وزمانه، والترحم على مآثره، في إعادة إنتاج الحنين لزمانه، بالعزف على أوتار وسرديات منظومة الاستقرار ومحاربة الإرهاب، والحفاظ على الدولة من المؤامرات الخارجية، وبنائها بالمشروعات الكبرى، الحفاظ على الاستقلال الوطني، النوم في ظل السلام الدافئ مع إسرائيل، والعلاقات الاستراتيجية مع أميركا. النظام يرث مبارك ونظامه ومقولاته، ليست وراثةً بالدم كما أراد الرئيس المخلوع، بل بالمؤسسة والسياسات، وبمجموعات المصالح، ورجال النظام الفاعلين على خريطة الاقتصاد والسياسة. ولم تكن فرصة موت مبارك تغيب من دون الاستفادة منها وتوظيفها بأفضل شكل ممكن، يوظف الماضي لتجسيد الحاضر وتأكيد حضوره ونجاحه، على الرغم من مجمل أزماته. ويحمل إظهار تقدير مبارك رسمياً في طيّاته كسب مزيد من القبول للسياسات القائمة. كذلك إن تبرئة مبارك سياسياً، وفي ساحات المحاكمات، يمنح شرعيةً للسياسات المطبقة حالياً، بالوصف أن للغصون جذوراً لا بدَّ من رعايتها والحفاظ عليها وإحيائها.

لم تكن المشكلة في مبارك طول فترة حكمه، ووراثته أسوأ ما في دولة يوليو من سلطوية واستبداد، بل فشله الذريع في توظيف إمكانات الدولة المصرية، بما فيها من ثروات وموارد ومؤسسات. هذه هي الكارثة الأكبر، وهي الأساس للأزمة المصرية، التي تعمقت فيما بعد. وهنا يمكن فهم الدعاية المكثفة التي أحاطت موت مبارك، والتغنّي بنظامه، عبر دعاية مكثفة، كانت تعبيراً أصيلاً عن حالة مواجهة المستقبل بالتحصّن بالماضي، وجاءت تبرئة نظام مبارك لإيجاد شرعية افتقدها نظام 30 يونيو، خصوصاً بعد تبخر وعود أطلقت، وخيبات أمل متراكمة.

لم تكن كل هذه المظاهر لتقوم، لو أن ثورة يناير انتصرت، وحققت بعض أهدافها في الكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية وبناء دولة ديمقراطية وإقرار مبدأ المحاسبة والعدالة والعقاب. لم يكن استدعاء السرديات المكرّرة التي نسمعها عن مبارك ونظامه لأن الثورة المضادة أوجدت لها سوقاً أو جمهوراً معتبراً، ولكن لأن ثورة يناير تقترب عند بعضهم من أن تصبح مجرد ذكرى، وخياراً صعب التكرار مستقبلاً، ومؤامرة لدى أنصار النظام. كان لازماً على من يدير المشهد أن يوظف رحيل مبارك، بطرق مختلفة، حتى لو سيق في سبيل ذلك مسألة احترام الاختلاف، والقيم السامية والنبيلة للمصريين في احترام الموت، وذكر محاسن الموتى، ولكن ذلك لا يخفي عملية الخلط المقصودة، بهدف تبرئة مبارك شعبياً، وإعادة كتابة التاريخ واجتزائه وتزييف الوعى مجتمعياً حول الثورة والتغير، وناهبي ثروات المجتمع.

راح كتّاب، وبعضهم يعتبرون أنفسهم تنويريين، وهناك من يصنفهم كتّاباً كباراً، فيما هم غارقون في الغيبيات، راحوا إلى شحذ مشاعر التعاطف مع مبارك ونظامه بشتى السبل، للتأثير في الرأي العام. كأنهم تلقفوا رسائل قدرية وغيبية من السماء، ويعلم من في مصر وخارجها كيف يتم الوحى برسائل "وتساب" إلى مجموعات الكهنة، حرّاس المعبد في كل عصر، الموالين لمن في السلطة، أو من ينتصر عليها. تحدّث بعضهم عن الفأل الحسن، وتزامن هطل الأمطار مع وفاة الرئيس، صاحب اليد الخيرة في مقامه ورحيله على البشر والشجر. ومنهم من ربطوا رحيله في شهر فبراير بذكرى إسقاطه، وكان الله يردّ ظالميه وينتصر له. وقد لا تتوقف مستقبلاً الإشارات السماوية الربانية المرتبطة برحيل مبارك، بعد تبرئته هو وأبنائه من تهم الفساد وإهدار المال العام في المحاكم المصرية، أو سجن ظالميه من الخونة الذين حرّضوا الشعب الطيب على الثورة على الأب الزعيم القائد شريف اليد. وبالتأكيد، لا تقارن هذه الإشارات الرّبانية بمحاولاتٍ أقل من قصائد المديح الاعتيادية، والنفي المكرّر للتوريث بوصفه إشاعة. لم يكن مبارك ينوي ترشيح نجله جمال الذي كان الأمين العام للحزب الوطني قبل الثورة، وكان في مرحلة معلومة يشكّل الحكومات ويدير الدولة نيابة عن أبيه. وقد اكتشفنا أن التنمية كانت حاضرة في عصر مبارك، وأن الحريات كانت مكفولة، وأن وقائع التعذيب كانت حالات فردية.موت حسني مبارك فرصة لإعلان انتصار الثورة المضادة، وجاء توظيفه لنصرة الحاضر وشرعنته. أما مظاهر الحزن، أو الارتداد من بعض النخب وتعليقاتها على موت مبارك، وكذلك ترحّم قطاعات من الشعب على نظامه، فهذا موضوع آخر.

أضف تعليقك