• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم.. قطب العربي

لم تكن وثيقة التوافق الوطني التي أعلنها يوم الجمعة الفنان والمقاول المصري محمد علي هي أول وثيقة من نوعها، وقد لا تكون آخر وثيقة، لكنها في كل الأحوال حجر في بركة سياسية راكدة، وخطوة (مهما كان حجمها) على طريق طويل ومعقد لبناء توافق وطني بين القوى السياسية المصرية التي تعيش في جزر منعزلة رغم ما ينالها جميعا من سوء العذاب على يد السيسي وزبانيته، دون تفريق بين إسلامي وليبرالي ويساري.

الوثيقة التي ضمت ثمانية مبادئ حاكمة و11 بندا لأولويات العمل هي مزيج بين عدة وثائق سابقة، مثل وثيقة بروكسل المعلنة في أيار/ مايو 2014، ووثيقة وطن للجميع المعلنة في أيلول/ سبتمبر 2016، ووثيقة الجبهة الوطنية المعلنة في 3 تموز/ يوليو 2017. وما تضمنته من بنود هي فقط البنود محل الاتفاق أو يفترض انها محل الاتفاق بين القوى السياسية الإسلامية والعلمانية، وقد تجنبت الحديث عن النقاط الخلافية التي يمتلك كل فريق تصورا خاصا بها، وهذا أمر طبيعيي في مثل هذه الوثائق التي تقوم بالأساس على مبدأ "نتعاون فيما اتفقنا فيه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا عليه".

بناء التوافق الوطني حول بعض الثوابت والمشتركات مسألة ضرورية، ولكنها واجهت صعوبات كبيرة طيلة السنوات الماضية، لم تكن علتها في النصوص بقدر ما كانت في النفوس. فالقوى السياسية التي تمكنت قبل ثورة يناير من بناء توافقات عملية، في الأغلب تجسدت في حركات سياسية واجتماعية مناهضة لنظام مبارك مثل حركة كفاية والجمعية الوطنية للتغيير، نجحت مع غيرها من الحركات الشبابية والمجتمعية في حشد الشعب للثورة على نظام مبارك والإطاحة به من سدة الحكم، ولم تستطع بعد الثورة أن تكمل طريق التوافق العملي أو حتى النظري، وكان أول شقاق بينها حول أولويات المرحلة الانتقالية بين قائلين بالدستور أولا وقائلين بالانتخابات أولا، ثم كانت القشة التي قصمت ظهر البعير في استفتاء 19 آذار/ مارس 2011 على التعديلات الدستورية التي وضعها المجلس العسكري، والتي رغم موافقة غالبية المصريين عليها إلا أن المجلس انفرد بزيادتها من 11 مادة إلى 66 مادة دون أن يجد من يعارضه.

حالة الاستقطاب السياسي الشديد التي عاشتها مصر عقب استفتاء 19 آذار/ مارس شحنت نفوس كل القوى السياسية تجاه بعضها البعض، وكان هناك شعور يتملكها جميعا بانها صاحبة الثورة والأحق بجني ثمارها وحدها دون غيرها، لم يتوقف هذا الأمر على الإسلاميين بحكم كثرتهم العددية في الميادين، بل شمل بطريقة أكثر تطرفا القوى العلمانية التي ظنت أنها هي من أطلق شرارة الثورة، وأنها تملك صكوك الثورية والوطنية، ولهذا السبب فشلت جهود الجمعية التاسيسية الأولى للدستور، وتعرضت الثانية لصعوبات بالغة أثناء عملها وصولا إلى الإنسحابات الكثيرة منها، ثم الانقسام حول مشروع الدستور الذي أنتجته والذي أقره الشعب بأغلبية 64 في المئة، وظلت هذه الروح قائمة ومتصاعدة وصولا إلى انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013.
 

حين يمكن تحديد الهدف المطلوب الوصول إليه ببساطة وفي جمل أو مبادئ محدودة يسهل الوصول إلى اتفاق

حين يمكن تحديد الهدف المطلوب الوصول إليه ببساطة وفي جمل أو مبادئ محدودة يسهل الوصول إلى اتفاق. حدث ذلك في التوكيلات التي جمعها الشعب المصري لسعد زغلول ورفاقه إبان ثورة 1919، حيث كان هناك مطلبان واضحان هما الاستقلال والدستور، وحدث ذلك قبيل ثورة يناير في وثيقة المبادئ السبعة التي قامت عليها الجمعية الوطنية للتغيير بقيادة محمد البرادعي، والتي جمع المصريون لها أكثر من مليون مؤيد في ظل ظروف بالغة الصعوبة أمنيا وسياسيا، ولكن حين يتشعب النقاش حول قضايا جدلية وعبثية أو لا تمثل أولوية لعموم الشعب، مثل قضايا الهوية وطبيعة نظام الحكم وبعض القضايا الحداثية، فإن الفشل والتعثر والصراع سيكون هو المصير المحتوم، حيث سيتمترس كل طرف حول قناعاته ويعتبرها دينا لا يجوز التفريط فيه.

ميزة الوثيقة التي أعلنها الفنان والمقاول محمد علي أنها تحدد هدفها بوضوح، وهو الخلاص من النظام القائم، وبناء دولة مدنية ديمقراطية، وتحقيق مبادئ ثورة 25 يناير (عيش- حرية- عدالة - اجتماعية وكرامة إنسانية)، وإطلاق سراح جميع السجناء السياسيين، واستعادة المسار الديمقراطي، وتجريم الانقلابات العسكرية، بالإضافة إلى بعض الضمانات الأخرى لحياة اقتصادية وديمقراطية مناسبة لمصر، ولذا، فعلى الأغلب ستكون محل قبول من الكثير من القوى السياسية.

دعك من مناكفات البعض الذين لم يتركوا أي جهد لمواجهة النظام القائم إلا أشبعوه نقدا وذما، رغم ما يعانونه من قمع هذا النظام، ودعك من جلبة رجال النظام ولجانه الالكترونية التي لن تخرج على المقرر المحفوظ في وصم الوثيقة ومعلنها وداعميها بالخيانة الوطنية ومطالبتهم بالعودة إلى مصر والمعارضة من الداخل!! ودعك من عدم الإعلان الرسمي للكثير من القوى عن دعمها للوثيقة لحسابات سياسية وأمنية خاصة بها، لكن في الحقيقة فإن مطالعة بنود الوثيقة تؤكد أنها حاولت بناء توافق حول بعض المبادئ المشتركة التي لا يختلف عليها أحد، حتى وإن لم تقدم برنامجا عمليا للخلاص من النظام القائم، فهذا ليس شأن مثل هذه الوثائق ولكنه شأن من يقبلون بنودها كلها أو جلها، وبالتالي فهم مطالبون بوضع برنامج العمل المنبثق من هذه البنود، لكن الأهم من كل ذلك هو أن تصفو النفوس أولا فهي الطريق الصحيح لتطبيق النصوص.

أضف تعليقك