• الصلاة القادمة

    العصر 13:46

 
news Image
منذ ثانيتين

بقلم: عزة مختار

شاءت إرادة الله عز وجل أن تشيخ الحضارات وتضعف وتموت لتستبدل كما يهرم الإنسان ويموت ويولد غيره ليكمل دورة الحياة على وجه الأرض، فلا حضارة تمتد ليوم الدين، ولا قوة تبقى على حالها، وإنما هي أطوار كأطوار حياة الإنسان تماما بتمام ويأتي غيره ليكمل مهمة عمارة الأرض. فالتغيير الحضاري سنة ربانية من سنن الله التي يسير بها كونه في قوله سبحانه " وتلك الأيام نداولها بين الناس "، ويصف ابن خلدون في المقدمة  حال الدول فيقول: "(تحصل في الدولة طبيعة الهرم , ويستولي عليها المرض المزمن الذي لا تكاد تخلص منه ولا يكون لها برءٌ منه إلى أن تنقرض)، وكما تضعف الدول كذلك تضعف الكيانات، فالشركات تبدأ صغيرة ثم تكبر ويشتد عودها ، وتفرض سيطرتها، وتملأ الأسواق من سلعها ، ثم هي إن لم تجدد ذاتها باستمرار فإنها تأخذ في الانحدار والضعف ومن ثم السقوط مع ميلاد شركات أخرى تحتل مكانها بنفس الدورة ، وهكذا أيضا الجماعات التي تتبنى فكرا ما فهي يسري عليها نفس القوانين والسنن ، فكما أن إرادة الله لم تحابي أحدا من قبل حتى رسله ، فهكذا اليوم لن تحابي أحدا إن لم يطور من ذاته ، ويبذل أسباب البقاء والاستمرار كما هي قوة العمل في البدايات ، وإلا فسوف تدوسها حركة التاريخ التي لا تنظر إلى ماضيك وما قدمته ، بقدر ما تنظر لحاضرك وماذا تقدم .

ويحسب البعض جهلا أنه طالما يتحرك باسم الدين، ويرفع رايته، وطالما كانت له جولات في التضحية له، يحسب أنه بمفازة من قوانين الكون والسنن الربانية، ويحسب أنه كذلك سوف يتجاوز تلك السنن لمجرد ثباته على مواطن ما يصح أن يكون فيها الثبات لأنها مواطن ضعف وتراجع وخطأ لم يعد في الإمكان تصحيحه إلا بالبدء من جديد بفكر جديد يوازي حجم المتغيرات الحادثة والتي طرأت على الأمة بينما هو ما زال في بوتقته ساكنا ينتظر الفرج من السماء

أسباب السقوط والاستبدال

من رحمة الله تعالى بهذه الأمة أنه لم يكتب عليها الفناء كالأمم السابقة بما بدلت ، ومثال على الاستبدال بالفناء الكامل للحضارة كما قال رب العزة في كتابه "  أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ "

فتلك حضارات وصفها الله عز وجل بأنه لم يخلق مثلها في البلاد، ومع ذلك بكفر أنعم الله والفساد زالت تلك الحضارة وغيرها بشكل كلي، وتتباين أسباب السقوط الحضاري للأمم حسب المهمة التي تتحملها، فالأمة التي تمد البشرية بالعلم والرفاهية، غير الأمة التي تمدها بالمفاهيم والقيم السماوية وتصنع عملية التوازن اللازم لاستمرار حياة الإنسان على الأرض دون خلل يؤدي لفقدانه ذاته وسعادته وإرادته في استكمال مهمته

فالأولى تسقط إذا فسدت وظلمت وتجبرت، والثانية تسقط إذا هي حادت عن الطريق، وقصرت، وتركت العمل بالأسباب، وكليهما تكونا عبئا على الإنسانية فيتم الاستبدال، والتاريخ الإسلامي خير شاهد علي عملية استبدال الأنظمة التي تبدأ قوية فتية، تنشر القيم والعدل في الدول المفتوحة في الأرض المترامية، حتى إذا بدلت، جاءت من تزيحها وتبدأ من جديد

وأما على مستوى المجتمعات والجماعات والدعاة الذين أمر الله عز وجل الأمة أن يكونوا منها قائمين بأمر الدين ودعوة الناس إليه فيقول " وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ " ، فهؤلاء باستمرارهم وقيامهم علي أمر التعريف بدين الله هم من يحفظون الأمة من الزوال ، وعن حذيفة ، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال " والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَأْمُرُنَّ بالْمَعْرُوفِ، ولَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّه أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلا يُسْتَجابُ لَكُمْ "

ومن هذا الحديث الصحيح نستطيع أن نخلص لسبب البلاء الواقع على القائمين على الدعوة الإسلامية وهو النكوص عن مهمتهم التي تصدوا لها، والحياد عن الطريق الصحيح، والعقاب الرباني هنا ليس خاصا بهم وحدهم، وإنما يعم الأمة جميعها

 وقد يقول قائل، كيف يكون عقابا وطريق النبوة كله ابتلاءات، وعذابات من المشركين والظالمين، وطريق الدعوات ليس مفروشا بالورود، وإنما بالشوك والمكاره، وهذا صحيح، فكل أصحاب الدعوات أوذوا في سبيل الله، لكنهم كما ابتلاهم ليختبرهم، فقد جعل عز وجل لهم النصر والتمكين، وإذا كان بعض الأنبياء في تاريخ الأديان ماتوا دون أن يتبعهم أحد، وبعض الدعوات انتهت باستشهاد أصحابها جميعا، فقد مهدوا الطريق لمن بعدهم أن الدين والتوحيد والرسالة تستحق الموت في سبيلها إن استوجب الأمر

لكن كما سبق، لقد اتفقت إرادة الله ألا يكون الفناء لهذه الأمة المحمدية، وإنما استبدال نظاما بنظام، وجماعة بجماعة، وكيانا بكيان، وأفرادا بأفراد

فالابتلاء الذي هو الاختبار يكون فترة من الزمن يعلمها الله حتى يهيئ، ثم يكتب الله النصر لعباده إن لم يبدلوا سنن الله التي أجراها عليهم بما فيهم الأنبياء والمرسلين، وأما العقاب الذي هو علامات خطأ الطريق فيستمر إلى أن يسقط هؤلاء، ثم يأتي الله بقوم غيرهم، ثم لا يكونوا أمثالهم، لا يبدلون، ولا يحيدون، فيأتي الفتح على أيديهم، وتنهض الأمة من جديد، ويتحقق فيهم قول الله:

" وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون "

المشهد الحضاري الإسلامي الحالي:

قد يحسب البعض أن الحضارة الإسلامية الغائبة عن المشهد العالمي اليوم تمر بأسوأ مراحلها التاريخية ، لكن الحقيقة أنها تمر بحلقة من حلقات الدورة الحضارية التاريخية الطبيعية علي كل المستويات ، فالأمة قد بدلت علي مستوي الأنظمة ، فسلط الله عليهم عدوهم ، وقد بدلت علي مستوي الجماعات ، فسلط الله عليهم الحكام ، وبدلت علي مستوي الأفراد ، فسلط الله عليهم أنفسهم ، لقد صارت الأمة المسلمة ملعبا لكل الدول الكبري تتحارب عليها وتتاجر بها ، وسوقا استهلاكيا لكل المنتجات العالمية ، لا تكاد تطالب بمقاطعة سلعة من عدو ، حتي تقتنيها من عدو آخر ، بل لقد صارت تتحارب فيما بينها لحساب الآخر الذي يسوق سلاحه ، وأفكاره ، وهيمنته ، وها هي المخابرات الأمريكية تتلاعب بها ، فتارة أنقذوا سوريا ، وتارة أنقذوا تركستان الشرقية ، وتارة اليمن ، تصفية حسابات بين الكبار بينما الضحية دائما مسلم ، في الوقت الذي يتناطح فيه هؤلاء الكبار دون خسارة جندي واحد من جنودهم ، أو غلق مصنعا من مصانعهم ، ودخلت المنطقة في صراع لا ناقة لها فيه ولا جمل ، فباسم محاربة التشيع تنتهك اليمن  ، وباسم محاربة الإرهاب تنتهك سوريا ، وباسم محاربة داعش تنتهك ليبيا  ، وتصاب الأمة بداء الوهن واليأس والتقليل من الذات وهو أخطر ما قد يصيب الأمم ، وحتى الأفراد، لأنه لن يفطن لمواطن قوته، ولن يحاول الخروج من نكبته ، فيكون الناتج الحتمي ، المزيد من الرضوخ واستصغار الذات والرضي بالاستعباد والدونية ، هذا ما آلت إليه الأمة علي مستوي الأنظمة المستبدة بتبعيتها التاريخية لمن يضمن لها البقاء في سدة الحكم

وأما علي مستوى الحركات الإسلامية التي تصدت لأكثر من مائتي عام للاستعمار ومحاولات تزييف المفاهيم الأساسية للدين ، ومفاهيم الهوية ، ومواطن القوة ، وصنعت حالة من الوعي والذي لم يكن بالقدر الكافي لإزاحة الغثاء والضعف والانهزامية ، حتي بلغت ذروة عطائها في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي بتصديها للحركة الشيوعية في الجامعات في مصر ، ونجاحها في الهيمنة علي النقابات المهنية والدخول لمجلس النواب ، والمنافسة السياسية ولو بنسب محدودة لتصل لأعلي سلم السلطة التنفيذية بعد ثورة يناير 2011 ، لا ينكر أحد فضل الحركة الإسلامية في حفظ هوية البلاد ، والشكل الإسلامي العام لها ، لكن ما آلت إليه اليوم من تنازل عن الثوابت ، والتخلي عن أهم شعاراتها في مقابل الحصول علي مكتسبات شخصية للبعض ، وحالة الصراع والانقسام التي عجز علماء الأمة علي لملمتها ، ليس لها إلا سبيل واحد ، وهو الاستبدال

إن سنة الله لا تحابي أحدا لتاريخه النضالي، ولا تتواطأ مع مقصر لتضحياته السالفة طالما أنه حاد عن جادة السبيل، وقد أصبح التغيير الجذري ضرورة حضارية لصناعة التدافع السلمي بين الأمم، وداخل الأمة الواحدة. إن حركة التاريخ اليوم تسير نحو النضج الإنساني، والدخول في تجربة أخرى أكثر رحمة وعدلا وفتوة وربانية، إن الحروب التي يعد لها اليوم فيما يعرف بالشرق الأوسط لن تهلك الشعوب، فالشعوب لا تهلك، وإنما سوف تهلك أنظمة لتبدأ حقبة عالمية جديدة، حقبة يصنعها جيل جديد، اكتسب خبرة الكبار، وأضاف لها إبداعاته التي سوف تذهلنا.

أضف تعليقك