• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم: د. أشرف دوابة

كثيراً ما يهتم المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها بالبعد المادي لكسب ما يعينهم على متطلبات حياتهم، وهذا في حد ذاته محمدة وأخذ بالأسباب، فالله تعالى أمرنا في كتابه الكريم بالسعي في الأرض، ولم يحملنا همَّ الرزق، فهو من فضله وحده، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك: 15)، فالله تعالى يقول: «وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ»، ولم يقل: «كلوا من سعيكم وجهدكم»؛ فالرزق بيده وحده.

كما أنه تعالى سخر ما في الكون جميعاً لخدمة الإنسان، الذي ميَّزه بالتكريم والتسخير والرزق والتفضيل، فقال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الجاثية: 13)، (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الإسراء: 70).

يكشف واقع المسلمين اليوم عن تفاوت طبقي ملحوظ، وفقر مدقع موجود، وتكافل بات مفقوداً، في ظل الحصار على كل ما هو إسلامي وطمسه، وتجفيف منابع التمويل النافع للمسلمين لبناء الإنسان الاقتصادي الصالح.

وفي ظل ما يعانيه جل المسلمين في ربوع الأرض، غنيهم وفقيرهم، من كسب مال خال من البركات، أو العيش في شظف الفقر المادي أو المعنوي أو كليهما؛ تبدو الحاجة ملحة للمسلمين لتخطيط حياتهم المعيشية تخطيطاً اقتصادياً يعتمد على ركنين أساسيين للكسب والإنفاق؛ أحدهما مادي باتخاذ الجوانب المادية لتعزيز الدخل وترشيد الإنفاق، والآخر معنوي -وهو المفقود- من خلال تعميق البعد الإيماني لتحقيق البركة الاقتصادية.

والبركة الاقتصادية هي أحوج ما تحتاج إليه جموع المسلمين اليوم، وهي ليست لها حدود، فهي تمثل جوامع الخير والبر، وكثرة النعم، وهي في المال زيادته وكثرته، وفي العلم الإحاطة والمعرفة، وفي البيت سعته وسكينته، وفي الطعام وفرته وحسنه، وفي الوقت اتساعه وقضاء الحوائج فيه، وفي الصحة تمامها وكمالها، وفي العمر طوله وحسن العمل فيه، وفي الأولاد برّهم وحسن أخلاقهم، وفي الأسرة انسجامها وتفاهمها.. إنها بحق شيء غير ممسوك، ولكنها في واقع معيشة الناس لها دور ملموس وملحوظ.

عوامل تحقيق البركة

ومن عوامل تحقيق البركة الاقتصادية في حياة المسلم الحرص على الطاعات، وهجرة المعاصي والآثام، ومن ذلك المسارعة في الصدقات، والبعد كل البعد عن الربا؛ فالله تعالى يقول: (يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) (البقرة: 276)، فالربا في ظاهره نماء للمال، وفي باطنه محق لبركته، وهذا عكس الصدقة التي في ظاهرها نقص للمال، وفي باطنها زيادة في البركة والنماء.

كما أنه من أهم جوامع تحقيق البركة الاقتصادية في حياة المسلم الذكر الاقتصادي، الذي يمثل كلمات بسيطة القول غزيرة المضمون موجبة للبركة الاقتصادية، فمن خلال الارتباط الوثيق بالذكر الاقتصادي في حركات المسلم وسكناته، يفتح الله له أبواباً لمضاعفة حسناته، ومحو سيئاته، وإعانته على عمله، وتوسيع أرزاقه، وتحقيق البركة الاقتصادية بصفة عامة في معيشته، قال تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ) (البقرة: 152)، وفي الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إليَّ بشبر تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» (متفق عليه).  

ومن هنا تبدو أهمية ديمومة الذكر الاقتصادي للمسلم في حياته اليومية، فإذا استيقظ من نومه وتوضأ ابتهل بالدعاء: «اللهم اغفر لي ذنبي، ووسع لي في داري، وبارك لي في رزقي» (رواه البخاري)، وإذا استقبل يومه بالذهاب لصلاة الصبح ردد: «اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، واجعل في سمعي نوراً، واجعل في بصري نوراً، واجعل من خلفي نوراً، ومن أمامي نوراً، واجعل من فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، اللهم أعطني نوراً» (رواه مسلم)؛ فيبارك الله له في بنائه الجسدي والروحي.

فإذا ما انتهى من صلاته فهو في ذمة الله، ففي الحديث: «من صلى الصبح فهو في ذمة الله» (رواه مسلم)، وما أكرم أن يكون العبد منذ بدء يومه في ذمة ملك كريم يملك الملك والأرزاق.

ثم ما يلبث أن يتوكل على ربه، ويطمع في معافاة جوارحه، وإصلاح شأنه وفقاً لما يقدره خالقه، فيتوجه إلى ربه بأذكار الصباح رافعاً أكف الضراعة إليه سبحانه: «اللهم عافني في بَدَني، اللهم عافني في سمعي، اللهم عافني في بصري، لا إله إلا أنت» (رواه أبو داود)، «اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، لا إله إلا أنت» (رواه أبو داود)، «يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كُله، ولا تَكِلْني إلى نفسي طرفة عين» (رواه النسائي).

فإذا تناول بعد ذلك طعامه سعى إلى تحقيق البركة فيه من خلال البدء: «باسم الله» (رواه الترمذي)، والاتجاه إلى الله بالدعاء: «اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيراً منه» (رواه الترمذي).

فإذا فرغ من طعامه كان قوله: «الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام وزرقنيه من غير حول مني ولا قوة» (رواه أبو داود)، فإذا ما اتجه لارتداء ثيابه ابتهل إلى الله بالدعاء: «الحَمْدُ لله الذِي كَساني هذا ورَزَقَنِيه مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنّي ولا قُوةٍ» (رواه أبو داود)؛ فيرزقه خيره، ويصرف عنه شره.

فإذا خرج من بيته انطلق لسانه وقلبه: «اللهُمَ إني أعُوذُ بِكَ أن أَضلَّ أوْ أُضَلَّ، أَوْ أزلَّ أو أُزلَّ، أوْ أظلِم أوْ أُظْلَم، أوْ أَجْهَلَ أوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ» (رواه أبو داود)، «باسم الله، توكَّلْتُ على الله، لا حَوْلَ ولا قُوةَ إلا بالله» (رواه أبو داود)، فيكفيه الله بما يريد، ويقيه ما لا يريد، وينحي عنه الشيطان فلا يعرف له طريقاً.

وإذا دخل إلى موطن عمله كان قوله: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك ولـه الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير» (رواه الترمذي)، فيوقن أن كل شيء بأمر ربه من حياة وموت، وسعة وضيق، فتطمئن نفسه على رزقه وحياته، وأنه لن يأتيه إلا ما قدّره الله له.

ثم إذا ما عاد إلى بيته ذكر ربه فيبارك الله له؛ ففي الحديث: «إذا دخل الرجل بيته، فذكر الله تعالى عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله، قال الشيطان أدركتم المبيت» (رواه مسلم).

ثم إذا ما أخلد للراحة والنوم، حمد ربه وأسلم إليه أمره، مبتهلاً بالدعاء: «باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين» (متفق عليه).

وهكذا يرتبط المسلم روحياً بربه في أمسه ويومه وغده، وينتقل بالحياة من حوله إلى حول وقوة ربه، حتى إذا ما سافر استعاذ من «سوء المنقلب في المال» (رواه مسلم)، وإذا ما عُرض عليه مال كان قوله لمن يصنع فيه ذاك المعروف: «بارك الله لك في أهلك ومالك» (رواه البخاري)، وإذ شغله دَين يرجو رفعه وقضاءه كان قوله: «اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عن سواك» (رواه الترمذي)، «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين وغلبة الرجال» (رواه البخاري)، وإذا ما أكرمه الله بسداد دينه كان قوله لمن صنع فيه هذا المعروف: «بارك الله لك في أهلك ومالك، إنما جزاء السلف الوفاء والحمد» (رواه ابن ماجة).     

وإذا أصابه سنة في رزقه كان قوله: «اللهم أغثنا، اللهم أغثنا» (رواه البخاري)، «اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً مريئاً مريعاً نافعاً غير ضار عاجلاً غير آجل» (رواه الترمذي)، «بسم الله على نفسى ومالي وديني، اللهم ردني بقضائك، وبارك لي فيما قدر، حتى لا أحب تعجيل ما أخرت ولا تأخير ما عجلت» (رواه البيهقي)، «اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إن شئت سهلاً» (رواه ابن حبان)؛ فييسر الله أمره ويوسع له في رزقه.

وبذلك يعي المسلم قوله تعالى: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى {123} وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى {124} قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً {125}‏ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى {126}) (طه)، وقوله تعالى في الحديث القدسي: «ما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه» (رواه البخاري).

وبذلك يوازن المسلم بين مقتضيات الحياة في الأرض؛ من عمل وكد ونشاط وكسب، ومقتضيات العبادة لله عز وجل بالذكر الاقتصادي، وأداء ما افترضه الله عليه من الفرائض، والحرص على أداء النوافل؛ فيحيا قلبه، وتتحقق له المقدرة على الاتصال والتلقي والنهوض بتكاليف الأمانة الكبرى التي اختص الله عباده بها.

أضف تعليقك