بقلم: عبير ياسين
عندما نشرت صفحة “اليابان بالعربي” على موقع تويتر تعليقا ينتقد الخبر الذي نشر في صحيفة مصرية، وأشار إلى بكين بوصفها عاصمة اليابان بدلا من طوكيو، سارع البعض إلى التعليق بسخرية مصرية، أن اليابان عليها أن تراجع اسم العاصمة لأن النظام المصري يعرف أكثر. أعاد التعليق التذكير بواقع آخر من رواية “مئة عام من العزلة 1967” للكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، حين يصر البعض على تكذيب قصة القطار والجثث التي كان يكررها أحد أفراد أسرة “بوينديا”، المحورية في الرواية، عن معايشة لوقائع التصدي لإضراب عمال شركة الموز، والتعامل مع القصة بوصفها حالة من الجنون، والتأكيد أنه لا قطار ولا جثث، لأن هذا ما قالته الحكومة والإعلام الرسمي.
أما الحدث الأكثر أهمية، بحكم قدرته على جذب الاهتمام والمشاركة، وبعيدا عن أصل حضور اليابان في المشهد، وهو مشاركة عبد الفتاح السيسي في مؤتمر طوكيو الدولي السابع للتنمية الافريقية “تيكاد 7” الذي عقد في مدينة يوكوهاما في الفترة ما بين 28- 30 أغسطس 2019، خاصة مع تولي مصر لرئاسة الاتحاد الافريقي، فتمثل في الجدل الذي أثارته تعليقات مذيع مصري عن الأسعار في اليابان، والذي اكتسب بعدا إضافيا في ظل دخول الصفحة المشار إليها في الجدل، منتقدة الأرقام التي أعلنت، في ما اعتبرته التعليقات تكذيبا يابانيا، وغيرها من التعليقات التي ضخمت الحدث، وركزت على الأرقام دون الرسالة أو المعنى المطلوب منها.
يتطلب الأمر هنا وقفة لأنه يصب في تأسيس خطاب الشرعية، وخطاب التسويق الداخلي للوجود والضرورة من جانب، والمعاناة وحزام التقشف من جانب آخر. وربما يمكن الإشارة بشكل خاص إلى مقال تم نشره في صحيفة مصرية في يونيو الماضي، وتم فيه بشكل واضح الحديث عن خيارات المواطن ممثلة، وكما هي العادة، في تقديم الواقع في صورة مباراة صفرية بين درجات مختلفة من السوء، تمثلت في الاختيار بين نار الحروب ونار الأسعار، بدون أن تقول إن هناك عالما آخر يتمتع فيه البشر بحياة وحقوق وحريات، ولا يكون على الإنسان فيه الاختيار بين الموت السريع والموت التدريجي وتنويعات المعاناة. لا تغيب تلك الرؤية بدورها عن النظام والإعلام، حيث يتم إبراز الكوارث التي تواجه العالم بمجرد حدوث كارثة في مصر، للتأكيد على أن الكوارث عادية وتحدث في كل دول العالم بما فيها الدول المتقدمة.
يصبح على المواطن أن يختار بين درجات المعاناة، وربما بين الدولة والسلع كما خيره السيسي في “منتدى شباب العالم”- نوفمبر 2018 بقوله: “عايزين تبنوا بلادكم وتبقوا دولة ذات قيمة وإلا هندور على البطاطس؟”، بدون أن تتضح العلاقة بين توفر سلعة غذائية وتأسيس وطن، أو أن تكون العلاقة صفرية، وفي سلعة غذائية لها قيمتها في واقع تزداد فيه الأسعار وتقل فيه الخيارات بحكم غياب القدرة على الاختيار. تصب تلك الرؤية بدورها على التناول الإعلامي والتفسيرات التي تقدم للتعامل مع العالم. وبدلا من الحديث عن الخدمات ومستوى المعيشة والتركيز على فكرة أساسية ومحورية، وردت وكأنها هامش، وهي محورية مكانة المواطن الياباني وأهميته، تم التركيز على الأرقام المجردة، التي يقصد منها كما يتضح من السياق، التأكيد على أفضلية الوضع في مصر مقارنة باليابان، على الأقل من باب الأسعار. ورغم أن التركيز على الأسعار بدون الإشارة إلى الدخل ومستوى المعيشة، كان من شأنه إثارة العديد من الانتقادات، إلا أن تضخيم الأرقام لمستوى عالمي، على طريقة أن سعر لتر البنزين 18 دولارا وتعديله إلى 15 دولارا -مقابل 1.30 دولار في الواقع، والتأكيد أنه أعلى سعر للبنزين في العالم، كان من شأنه إثارة المزيد من الاهتمام والجدل، وإن جاء بدوره متسقا مع فكرة الأكبر والأضخم والأكثر ارتفاعا، التي يركز عليها الداخل، وإن كان لدينا أكبر مبنى وأعلى برج وغيرها من تلك الأرقام، من الطبيعي أن يقدم الآخر بوصفه الأكثر ارتفاعا في الأسعار، أو عدم الاستقرار حتى يقبل المواطن أن معاناته قليلة مقارنة بغيره.
قد يرى البعض أن المبالغة مقصودة من أجل زيادة الأهمية، والحصول على تغطية أكبر، كما حدث فعلا، وهو ما يساعد على تمرير الرسالة المطلوبة، ولكن يظل أن ما يحدث يبدو متسقا مع تخبط الواقع بما فيه تصريحات مذيعة أخرى عن زيادة الوزن، التي اعتبرت مسيئة وتعبر عن إهانة غير مقبولة، في وقت كان ردها هو تبني خطاب الدولة والرئيس، وهو أسوأ ما يمكن تقديمه، من أجل دعم قضية أو شخص، كما حدث في التصريحات عن اليابان، التي أبرزت بدورها كيف يتم اللجوء إلى تزييف الواقع من أجل إيصال الرسالة المطلوبة، متمثلة في تعديل مقولة “أحسن من دول الجوار” إلى مقولة “أحسن من اليابان”. هنا وبعيدا عن السخرية بكل ما تكشف عنه من فجوات وعيوب السلطوية وخطابها، وبعيدا عن أصل الزيارة وطبيعتها، نعود إلى قضية محورية الأرقام، بوصفها إحدى الأدوات التي تستخدم دوما في التعامل مع المواطن، الذي لا يدرك حجم الرفاهية التي يعيش فيها مقارنة بالدول التي تواجه حروبا، أو الدول المتقدمة التي ترتفع فيها الأسعار، كما حدث من قبل في المقارنة مع فرنسا مع بداية مظاهرات “السترات الصفراء”، بالإضافة إلى استخدام الأرقام نفسها في الكثير من الأوقات، لتأكيد ثراء الشعب وقدرته على تحمل المعاناة، لأنه ينفق الكثير على الطعام في المناسبات والأعياد والهواتف والشقق، وغيرها من البنود التي تمت الإشارة إليها من قبل، وتوضيح أنها تعبر عن انخفاض المستوى المعيشي وليس عن الثراء بالضرورة، في ظل أن الإنفاق يتم على بنود رئيسية مثل الطعام والسكن.
نعود إلى مفارقة الأسعار وواقع اليابان الذي أزعج المذيع المصري، وربما كان يفترض أن يطالب معه بالتبرع لليابان، وبعيدا عن الكثير من النقاط التي تحتاج إلى تدقيق، فإن النقطة المهمة هي الأمور الصغيرة التي تمت الإشارة إليها، بوصفها اكتشافا لتأكيد قيمة ما نملك، مقارنة مع الآخر مثل، التعامل مع الفاكهة والخضار بالقطعة في اليابان وليس الوزن في مصر، وكيف يعبر هذا، وفقا للخطاب المستخدم، عن رخاء ورفاهية من نوع ما. هنا تبرز أهمية التجاوز عن الأرقام المجردة، ووضعها ضمن السياق الأوسع للدخل ومستوى المعيشة والقدرة الشرائية. ووفقا لنتائج بحث شمل 360 ألف موظف بدوام كامل في 2019، يصل متوسط الدخل السنوي في اليابان إلى 4.14 مليون ين أو 640 ألف جنيه. في حين يزيد هذا المتوسط حسب القطاعات وطبيعة العمل، حيث أشار الباحث في العلوم الاجتماعية كينجي هاشيموتو في دراسة له عن التوزيع الطبقي في اليابان، إلى أن طبقة الملاك (التي توظف 5 أفراد على الأقل) فتحصل على 6 ملايين ين سنويا، وتصل نسبتها إلى 4.1% من السكان العاملين، أما الطبقة الوسطى الجديدة، التي تصل نسبتها إلى 20.6% فيقل دخلها السنوي قليلا عن 5 ملايين ين، أو 770 ألف جنيه تقريبا، في حين تمثل العمالة المؤقتة أو غير المنتظمة 15% من السكان، وتتوسع في ظل أجور منخفضة لا تسمح بتأسيس حياة مستقرة، بما يتطلب زيادة الحد الأدنى لساعة العمل، الذي يتراوح بين 800 – 1000 ين لساعة العمل، أو 125-155 جنيها تقريبا. هنا يصبح من الصعب المقارنة بالوضع في مصر، التي أكد أحدث تقرير عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في يوليو الماضي أن 32.4% أو أكثر من ثلث السكان تحت خط الفقر، مع انتقادات تتعلق بطريقة الحساب وتحديد معدل خط الفقر عند 736 جنيها مصريا أو 4.700 ين تقريبا، التي تمثل ما يقارب 5- 7 ساعات عمل للعمالة المؤقتة في اليابان.
بعيدا عن تلك الأرقام التي تبرز الفارق بين الدخل، وتبرر وجود اختلاف في الأسعار تصعب معه المقارنة، يصبح الأكثر أهمية هو العودة إلى القيمة الشرائية، وإدراك مستوى المعيشة. وبالعودة إلى موقع “نومبيو” الأوروبي الذي يمكن من خلاله مقارنة تكاليف المعيشة بين الدول، نجد أن الأرقام المجردة أكثر ارتفاعا في اليابان عنها في مصر، سواء من حيث أسعار السلع أو إيجار السكن، ولكن عندما يتعلق الأمر بالقدرة الشرائية وجودة الحياة فإنها أكثر ارتفاعا في اليابان. ويقيس المفهوم الأول قدرة المواطن متوسط الدخل في الدولة المعنية على شراء السلع والخدمات، مقارنة بما يحصل عليه الشخص متوسط الدخل في مدينة نيويورك، التي يتعامل معها الموقع بوصفها مدينة القياس. وبمقارنة القدرة الشرائية نجد أن الفرد متوسط الدخل في مصر قادر على شراء 24.36% فقط من السلع التي يمكن أن يشتريها المواطن الذي يحصل على دخل متوسط في نيويورك، في حين تصل تلك النسبة في اليابان إلى 99.94%، بفارق كبير بين الإمكانيات التي يمكن أن يتم الحصول عليها من سلع وخدمات في الحالتين. أما جودة الحياة التي يتم حسابها وفقا لعدة مؤشرات مثل، القوة الشرائية وتلوث الهواء ومعدلات الجريمة وغيرها، فتصل في مصر إلى 78.13% وفي اليابان إلى 170.58% بما يوضح كيف تختلف الحياة وجودتها بعيدا عن الأسعار وأرقامها.
يقصد من تلك المقارنات السريعة التأكيد على أهمية التجاوز عن خطاب الإنجاز والمقارنات الرقمية، والرسائل التي يتم من خلالها انتقاد رفاهية المواطن المصري، والإشادة بما يتمتع به من مميزات تؤهله لتحمل المزيد من المعاناة، وتمرير كل ما يتم من تخصيص غير رشيد للموارد يركز على المشاريع الكبرى والديون، ويجعل معاناة ملايين الشعب في خدمة صورة النظام ومصالح الأقلية، بالمخالفة لواقع الأشياء ومستوى المعيشة الحقيقي الذي يسكن في عمق المعنى ويدفن تحت الأرقام المجردة.
أضف تعليقك