• الصلاة القادمة

    العصر 13:46

 
news Image
منذ ثانية واحدة

إن كل نظام فكري اجتماعي يحتاج إلى سلسلة من الأفكار المعنوية، وتحتاج هذه الأفكار إلى قيم فوق المادة، وإن القيم لا بد أن تكون قوية ومحركة ومقدسة، وعلامة قدسية الشيء هي اعتقاد الإنسان بأنه يستحق التضحية بحياته من أجله.

إذاً؛ فإن كل عقيدة تتضمن/تحتاج إلى هذا النوع من الأهداف والقيم المعنوية، ولا يمكن بناء عقيدة شاملة وجامعة للبشرية على أساس الاشتراك في المنفعة فقط، كما هي الحال مع الماركسية، وبدون الإيمان بالله الذي أوجد الخلق لحكمة وهدف، لا يمكن الإتيان بأفكار تحمل تلك القيم العليا(1).

إن كل نظام اجتماعي يحتاج إلى «وقود» من الطاقة المعنوية التي تمكن الأفراد من العمل والتفاني والتضحية في سبيل بقاء هذا النظام واستمراره وتطوره، هذا الوقود اتفقت الشرائع السماوية والنظم الوضعية على تسميته بـ»القيم».

وتدور منظومة قيم المجتمع في القرآن حول ثلاثة محاور:

الأول: الإنسان باعتباره موضوع ونواة رسالة القرآن.

الثاني: الجماعة/الأمة وهي حاملة الرسالة التي تحقق غاية القرآن.

الثالث: العالَم (الجماعة الإنسانية الكبرى).

فالمجتمع في المنظور القرآني يبدأ من دائرة الفرد ثم المجتمع الصغير وصولاً إلى العالم الأكبر.

ومن ناحية أخرى، فقد أعطى القرآن مساحة كبيرة للمجتمع من حيث التشريعات والقواعد الضابطة للسلوك الفردي والجماعي معاً، وأفرد علماء التراث قسماً خاصاً بالمعاملات الاجتماعية وأبعادها التشريعية، هذا فضلاً عن ارتباط العبادات ذاتها بالجانب الاجتماعي سواء في أدائها أو في آثارها المتوقعة ونتائجها الفعلية، يقول تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) (العنكبوت: 45)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {183}) (البقرة)، (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ {19}) (الذاريات).

وتظهر قيمة «الأمة» كمثل أعلى بالنظام الاجتماعي في الإسلام وهي قيمة تجمع حولها عدداً من القيم الوظيفية (الوحدة، التماسك، التعاون، ذم التفرق والاختلاف)، فالأمة هي التي يتجلى فيها النظام القيمي الاجتماعي، وتتجلى فيها عملية التنشئة الحيوية للأمة التي تبدأ بالفرد (اللبنة الأولى)، ثم تمر بالجماعة وصولاً إلى الأمة، وهذه بالأساس عملية بناء القيم في المجتمع(2).

فالأمة في القرآن تمثل قيمة اعتقادية، كما أنها قيمة اجتماعية، والعلاقة بينهما علاقة عضوية مترابطة لا تنفك؛ فالأمة ميدان لتجسيد القيم الاجتماعية، ومظهر من مظاهر قياسها.

ومن أهم قيم الأمة في القرآن ما يلي:

1- قيمة الإنسانية العالمية: وهي في قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ {107}) (الأنبياء:107)، (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) [آل عمران: 110)، (أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام: 90)، فالمسلم في الأمة ينشغل بالعمل للآخرين لكل الناس من باب قيم الرحمة والخيرية التي تمثل غاية الرسالة ووظيفة الأمة، ومن هنا فوظيفة الأمة تتخطى حواجز الجغرافيا؛ لأن حدود الدعوة والهداية لا تعرفان الحدود البشرية أو الطبيعية.

2- قيمة الوسطية: ويرتبط بقيمة الإنسانية العالمية قيمة أخرى هي «الوسطية»؛ (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: 143)، والوَسَط في اللغة يعني: ظرف بمعنى بَيْن، يقال: جلس وسط القوم، «الوسط» وسط الشيء: ما بين طرفيه وهو منه والمعتدل من كل شيء، يقال: شيء وسط بين الجيد والرديء وما يكتنفه بين أطرافه ولو من غير تساوٍ وبعدل وبخير، وفي التنزيل: «وكذلك جعلناكم أمة وسطاً»؛ أي عدولاً وخياراً»(3).  

إن «الوسط» المقصود في رسالة الأمة التي يراد لها أن تكون «شهيداً» على الناس له معنى أعظم بكثير، يعني أننا أمة نتوسط الميدان؛ ميدان الأرض والزمان، نحن فرسان الميدان، نحن قطب القضية، نتوسط الساحة، لا نكون شرذمة تدور حول نفسها في أقاصي «الشرق الأوسط»، بعيدة غافلة عما يدور حولها، غافلة عن معارك الأفكار والقضايا المصيرية التي تبني حاضر البشرية وغد التاريخ وتشكل صورة الحياة في كل مجال، لا نعرف سوى الاجترار وتكرار المكررات ثم تغمرنا السعادة! كلا، إنما ينبغي أن نكون وسط الساحة ومحور الميدان، لا نكون أمة غائبة، معتزلة، بل يجب أن نكون مجتمعاً أممياً في وسط الشرق والغرب، اليمين واليسار، مركز الأقطاب، وسط المعترك يحمل رسالته العالمية(4). 

3- قيمة الشهود: تأتي قيمة الشهود كنتيجة مترتبة على قيمة الوسطية، فالأمة الوسط هي أمة الشهود؛ (لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء)، يقول الرازي: «إن كل من عرف حال شيء وكشف عنه كان شاهداً عليه، والله تعالى وصف هذه الأمة بالشهادة، فهذه الشهادة إما أن تكون في الآخرة أو في الدنيا، لا جائز أن تكون في الآخرة لأن الله تعالى جعلهم عدولاً في الدنيا لأجل أن يكونوا شهداء، وذلك يقتضي أن يكونوا شهداء في الدنيا، وإنما قلنا: إنه تعالى جعلهم عدولاً في الدنيا.. فإن قيل: تحمل الشهادة لا يحصل إلا في الدنيا، ومتحمل الشهادة قد يسمى شاهداً وإن كان الأداء لا يحصل إلا يوم القيامة، قلنا: الشهادة المعتبرة في الآية لا التحمل، بدليل أنه تعالى اعتبر العدالة في هذه الشهادة والشهادة التي يعتبر فيها العدالة هي الأداء/التحمل، فثبت أن الآية تقتضي كون الأمة مؤدين للشهادة في دار الدنيا»(5).

4- قيمة القِبلة لا القَبيلة: يقوم مفهوم الأمة -أيضاً- على مناهضة قيم التمركز حول العرق؛ (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) )المؤمنون: 52)، فالأمة في المفهوم القرآني تتجاوز قيم القبيلة إلى قيم القبلة، وقيم العرق إلى قيم العقيدة، وقيم الطبقة إلى قيم المساواة الإنسانية، فالأمة الإسلامية هي الأمة التي يجتمع حولها كل الأجناس وكل الأعراق لا يتفرقون، وهنا تبدو قيمة “الوحدة” “وَاحِدَة” المذكورة في الآية هي القيمة الأعلى للأمة، والأمة بذلك هي الأمة القطب التي تجتذب حولها كل بني الإنسان مهما اختلفت أعراقه وأجناسه.

إن “الأمة القطب” هي تلك الأمة التي ينجذب إليها المختلفون والمتباينون ويلتقون جميعاً حولها وينشدون إليها باعتبارها بؤرة جاذبة أو مركز ثقل بشري، حيث تنفرد الأمة القطب بأنها “مفاعل استقطابي” تنجذب إليه الوحدات الأولى؛ لأنها هي البوتقة التي ينصهر فيها كل الأجناس والألوان لتكوين هوية متميزة ومتمايزة، أو كما تقول: “الأمة في الإسلام ملتقى أجناس وشعوب مختلفة الألوان والمنبت، ومن خلال موجات الإشعاع والجذب المتعاقبة تشد إليها وتصهر العناصر المتباينة في بوتقة تآلف جامع، وذلك دون أن تُذهب من معالم مكوناتها، ومن خلال جمعها للتمايز والوحدة على هذا النحو تقدم لنا الأمة الصياغة الحية المجربة لتلك المثالية المحققة التي طالما ميزت الحضارة الإسلامية”(6). 

وتقوم قيم الأمة في القرآن على مبدأين مركزيين، هما:

الأول: الكلية: فالنظام الاجتماعي الإسلامي كلي من حيث إنه يقوم على اعتبار الإسلام متعلقاً بكل مجالات النشاط الإنساني، فأساس هذا النظام الاجتماعي هو الإرادة الإلهية التي هي وثيقة الصلة بكل مخلوق، من حيث إنعام الله عليه بناموس وبنية ووظيفة، يقول الله تعالى: (لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً {1}) (الفرقان)، وفي حين تبدو عالمية الإسلام جلية في حقيقة أن تعاليمه موجهة لكل البشر بحكم إنسانيتهم، فإن كلية الإسلام جلية هي الأخرى بحقيقة أن الإسلام يضع على كاهل المسلم -بالنسبة لأي مجال من مجالات السلوك الإنساني المتروكة دون تشريع معين خاص بها- عبء التشريع المنظم لها على نحو يجعله موافقاً للشرع، ويجعل تطبيق الشرع شاملاً لكل ما يواجهه من مشكلات يومية، فالاجتهاد فريضة عامة على كل المسلمين(7). 

الثاني: العضوية: فالأمة في الرؤية التوحيدية تحمل أيضاً قيم العضوية، فيقوم كل أعضائها بدور في تأدية الرسالة الكونية المناطة بالأمة ككل؛ (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) (آل عمران: 104)؛ (عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً) (المزمل: 20).

إن إثارة قيم الأمة وتفعليها في برامجنا التربوية، وتنشئتنا الاجتماعية، وخطابنا الدعوي، ووسائطنا الفكرية، لا تتضمن فقط البناء الفكري الراشد لفعل النهضة، لكنها تتضمن قبله بناء شبكة علاقات مترابطة ومتماسكة تقوم عليها تلك النهضة المنشودة.

أضف تعليقك