• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

قضية التواصي من أهم قضايا العمل الإسلامي، وأكثرها حساسية، فأهميتها مستمدة من مشروعيتها. قال تعالى ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران: من الآية 110).

ومن منزلتها؛ إذ إنها "حجر الزاوية" في العمل الإسلامي فمتى فُعِّل التواصي "نما العمل" و"أثمر"، والعكس صحيح، كما أن حساسيتها مستمدة من كونها مرتبطة بمختلف عناصر العمل ودوائره من القيادة والجنود والسياسات والآليات، وهكذا فإن حاجتنا إلى "فقه التواصي" غاية في الأهمية لإثراء العمل. 

إن "فقه التّواصي" يعين على البر والتقوى، ويزيد من ترابط القلوب مما يدفعها لتحقيق الأهداف والغايات ويعينها على حمل الأمانة وأدائها كما يحب ربنا ويرضى، وبه تتفاعل الجهود الفردية وتتضاعف؛ مما يسهم في نماء العمل وتقدمه وإثرائه.

إننا بحاجة لأن نعرف أولاً كيف يوصي بعضنا بعضًا بغضِّ النظر عن موقع كل منا في منظومة العمل الدعوي؟ ومتى يكون التواصي "واجبًا" ومتى يكون "سليمًا"؟ وما الأسلوب الأمثل و"الوقت المناسب" له؟ وما مدى تأثيره سلبًا أو إيجابًا على العمل فضلاً عن إطار العمل المشترك؟. 

التواصي في الإسلام ليس من نافلة القول، ولكنه من أهم عناصر العمل شرعيًّا ودعويًّا وحركيًّا، روى ابن ماجه وابن حبان في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: "يا أيها الناس، إن الله يقول لكم: مُروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا أجيب لكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم" فما زاد عليهن حتى نزل". 

ودعويًّا، حرص الإسلام على إيجابية الفرد أيًّا كان موقعه فعليه أن يعمل ويَنْصح ويُنصح، وأن يبدي رأيه لما فيه الخير قال تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾ (العصر).

فالتواصي هنا ضرورة، وواجب دعوي على المسلم، فعليه أن يوصي، وأن يقبل بالتواصي وهذه قاعدة عظيمة، إذ لا يقتصر التواصي على فئة دون أخرى. فلا أحد أكبر من الوصية ولا أحد أقل منها.

ونماء أي دعوة وازدهارها بل وبقاؤها مرهون بعوامل عدة من أهمها التواصي، فمتى وُضع التواصي في دائرته السليمة، ولم يُؤثم، ويُنظر له على أنه نوع من الخروج على النُظم السائدة، وأخذ مأخذ الجد، ازدهر العمل وآتى أطيب الثمار، واستعصى على الاقتلاع.

يقول الشيخ محمد عبد الله الخطيب: "التواصي بالحق أو النقد من الواجبات الشرعية على كل مسلم رأي عيبًا أو انحرافًا من فرد أو جماعة أو نظام أو دولة امتثالاً لأمر الله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (104)﴾ (آل عمران) (مفاهيم دعوية، جزء :1).

فعلى القيادة الواعية في أي عمل دعوي ضرورة تقبل التواصي بلغة القرآن أو النقد بلغة العصر، كما عليها وضعه موضع الاهتمام وتقديره، وعدم تسفيه الآراء المخالفة مهما كانت، فقبول الرأي الآخر واحترامه وإن اختلف معه من أهم عوامل استقرار العمل ونمائه، فقد يكون فيه رؤى غائبة عن القائم على رأس العمل أو استنارة لقضية ما، فليس كل نقد ضارًا ومؤثمًا، ففي سماع الرأي الآخر واحتوائه وأخذ ما فيه من خير أهمية ونفع لكل مسلم.

وعدم سماع الرأي الآخر وقبول النافع منه هو نوع من أنواع الحجر على الرأي، وهذا معناه قسوة القلب، وهو يؤدي بدوره إلى ضلال العقل، وإذا ضل الأخير في المنظومة الإدراكية فالله وحده يعلم مدى ما قد ينجم عنه من شطط وانحراف.

ومن ثمَّ فإن ضرورة التواصي لازمة لكل فرد بأن يقوم بدوره بذاتية وبفاعلية من منطلق المرجعية الشرعية والدعوية لذلك، وعلى القيادة الدعوية الواعية تفعيل التواصي والنصح والنقد والمعارضة البناءة والاستفادة من كل الطاقات الكامنة داخل العمل الدعوي، وألا تحجر على أحد مهما كان رأيه، وأن تضع الأطر المنظمة لذلك، وليكن شعارها: "لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها". 

فالقيادة الدعوية الواعية هي التي تنزل التواصي منزلته، وتعمل على ترسيخه في نفوس الجنود وتربيتهم عليه، والتواصل بين القيادة والجنود هو بمثابة العصب للجسم إذا توقف أصيب الجسم بالشلل.

شروط.. وشروط

للتواصي شروط.. عدة:

أولاً: صلاح النية وسلامة الصدر: فعلى كل من الموِصي والموصَى أن يتحليا بهما لإحسان الإرسال والاستقبال، وأن يكون النُّصح خالصًا لله وحده دون أي غرض دنيوي، قال تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ (الكهف: من الآية 110)؛ كما يجب علينا تلقيه بسلامة صدر وبدون حساسية وأن تحمل الأمور على معانيها الحسنة.

 

ثانيًا: تحري الصدق: على من يقوم بالنصح تحري معاني صدق النية كافة، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "كبرت خيانة أن تحدث أخًا لك حديثًا هو لك مصدق وأنت له كاذب" (البخاري).

 

وإذا كان الصدق واجبًا في حياة المسلم كلها، فإنه أوجب في حالة النصح والتواصي لما فيه من خير كبير في حالة الصحة، وفساد كبير في حالة الكذب والغش؛ إذ سيكون ضربًا من الخيانة أعاذنا الله منها.

 

ثالثًا: سلامة الأسلوب: يقول بعض السلف "أدِّ النصيحة على أكمل وجه وتقبلها على أي وجه" فلنتخير الأسلوب الأمثل للنصيحة، ولتكن على انفراد ولنؤدها بخفض جناح وبلا استعلاء، ولتكن برفق ولين جانب، قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)﴾ (آل عمران).

 

ومن الشروط العامة للنصيحة التي ذكرها العلماء:

• أن تكون خالصة لله وأن تكون مشفوعة بالإشفاق.

• أن تكون النصيحة في معروف ومباح لا في منكر أو إثم أو قطيعة رحم.

• التركيز على الآراء والأفكار والأعمال لا على الأشخاص.

• تقديم النصيحة بحب ومودة وشفقة ورفق وتلطف.

• أن تكون في السر لا في العلن.

• البدء بالثناء على المنصوح وتذكيره بمآثره ومناقبه وإنزاله منزلته اللائقة به.

• البعد التام عن السخرية أو الشماتة.

 

رابعًا: الموضوعية: لا بد أن نكون موضوعيين في تواصينا، لا نكبر الصغير ولا نصغر الكبير، ونقدر المسألة بقدرها، ونبتعد عن التطرف والغلو في العرض والرد في الوقت ذاته. وليكن أمامنا قول الله تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)﴾ (الشورى).

 

خامسًا: حُسن التقبل للنصح: فالنصيحة كلمة جامعة لمعاني الخير؛ ولذلك جعلها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الدين كله حين قال: "الدين النصيحة" قالوا لمن يا رسول الله؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم".

 

وما دامت المسألة تدور في إطار شرعي، وابتغاء مرضاة الله فلنقبلها برحابة صدر ولنتمثل قول سيدنا عمر رضي الله عنه: "أحب الناس إليّ من أهدى إلي عيبي". وقول الإمام الشافعي: "ما ناظرت أحدًا قط فأحببت أن يخطئ. وما كلمت أحدًا قط وأنا أبالي أن يظهر الله الحق على لساني أو على لسانه، وما أوردت الحق والحجة على أحد فقبلها مني إلا وهبتُه واعتقدت محبته، ولا كابرني أحد على حق إلا سقط من عيني ورفضته، ووددت لو انتفع الناس بعلمي دون أن ينسب إليّ منه شيء".

 

نتائج التواصي

إذا أُدي التواصي بمفهومه الصحيح وشروطه السابقة فسوف يحقق أفضل النتائج ومنها:

1- إثراء العمل وتحقيق أهدافه: فالعمل المميز بروح التواصي قولاً وعملاً هو الأقرب لتحقيق أهدافه، ولنموه؛ وذلك لأن جميع الأفراد في المجال الدعوي على قلب رجل واحد وليست بينهم حواجز، لا مادية ولا نفسية، فروح الشفافية سائدة بينهم والصراحة طبعهم والوضوح منهجهم، لهذا فهم الأقرب لتحقيق الأهداف.

2- وضوح الرؤية أمام القيادة: فالقيادة الدعوية ستكون مبصرة بكل ما يدور داخليًّا وخارجيًّا؛ ذلك لأن كل فرد يؤدي دوره بسلامة صدر وطمأنينة، ويعمل لوضع خبراته وآرائه تحت تصرف قيادته، وإمدادها بكل ما لديه ليساعدها في اتخاذ القرار السليم المناسب.

3- احتواء الخلاف: إذ كيف يتضخم وينمو خلاف بينما روح التفاهم والتواصي بالحق والصبر هي السائدة، والأمور فيه غاية في الوضوح والشفافية، ولا يُحجر على رأي، والصغير يحترم الكبير والكبير يرحم الصغير، فإذا ظهرت أي بوادر لمشكلة فستكون النهاية الحتمية لها هي وأدها في مهدها من كل الأطراف.

4- تعزيز روح الانتماء: فإذا كان كل فرد يعمل ابتغاء مرضاة الله، ولا فرق بينه وبين القيادة في النصح والتواصي، ويستطيع أن يقول ما في نفسه دون تردد متقيًا الله فيما يقول، فإنه سيشعر بأنه المسئول عن العمل، وهنا ستبرز المسئولية الفردية الناجمة عن تعزيز روح الانتماء لدى الفرد لإحساسه بمسئوليته، والقيادة الواعية هي التي تنمي روح الانتماء لدى أفرادها ولا تضع بينها وبين القاعدة حواجز تحت أي مسميات.

5- نماء روح الأخوة: عندما يلتحم الإطار الدعوي قيادةً وقاعدةً بفعل التواصي، ستنمو روح الأخوة الحقة، وسيعمل الجميع على رفع مستوى العمل، ومستوى الأفراد الدعاة، وسيكون الجميع على قلب رجل واحد، وسيكون كل فرد بمثابة المرآة التي يرى الآخرون فيها أنفسهم، وسيشعر كل فرد بمدى حبهم له قاعدة وقيادة مما يؤثر إيجابيًّا على العمل الدعوي في جميع مستوياته.

 

وبذلك تتحقق الغاية العظمى في ترسيخ الأخوّة بين المؤمنين، وبها تتحقق خيرية الأمة المدركة لواجبها، فتُحقق القوّامة على الأمم، متواصية على ذلك بالحق والصبر يتّضح بها المعنى الحقيقي للتواصي. وقوله عز وجل: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17)﴾ (البلد).

أضف تعليقك