• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم: ياسر أبو هلالة

خلال أربعين يوما، ومن خلال مسلسل التسريبات التركي الذي لا يتوقف، عرفنا بالتفصيل ما الذي حصل في جريمة قتل الصحافي جمال خاشقجي. وجاء التقرير المقدّم من المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه) ليثبت تلك المعلومات، ويضيف إليها قليلاً من التفاصيل. لكن السؤال الأهم الذي حاول التقرير الإجابة عنه: لماذا فعلها؟ ولا شك أن في النظرية التي قدّمتها جانباً كبيراً من الصحة.

حاولت "سي آي إيه" أن تجيب عن سؤالٍ مركزيٍّ في جريمة اغتيال خاشقجي: لماذا أقدم ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، على فعلته؟ بحسب التقرير الذي نشرته صحيفة واشنطن بوست، فإن النظرية التي وضعتها "سي آي إيه" هي أن محمد بن سلمان يعتقد أن خاشقجي كان "إسلامياً خطيراً متعاطفاً مع جماعة الإخوان المسلمين"، بحسب أشخاصٍ مطلعين على التقييم. وتضيف الصحيفة "بعد أيام من اختفاء خاشقجي، نقل محمد بن سلمان هذا الرأي في مكالمةٍ هاتفيةٍ مع مستشار الرئيس الأميركي، جاريد كوشنر، ومستشار الأمن القومي، جون بولتون، الذي طالما عارض الإخوان، واعتبرهم تهديداً للأمن الإقليمي".

السؤال الذي لم يطرحه تقييم "سي آي إيه" المنشور: كيف وصل محمد بن سلمان إلى هذا الاستنتاج؟ ذلك أنه لم يكن مسيّساً، كما أن هذا التقييم لجمال خاشقجي و"الإخوان المسلمين" ليس تقييم المؤسسة في السعودية، حتى في ظل أسوأ المراحل التي مرّت بها علاقة الدولة السعودية بالإخوان عموماً، وبخاشقجي خصوصاً، فقد ظلت علاقة المملكة بالإخوان المسلمين، منذ تأسيس الجماعة، ودّية، وبلغت أوجها في عهد الملك فيصل، وتراجعت في ظل موقف "الإخوان" من حرب الخليج الثانية في 1991، عندما انقسموا بين من اعتبروها فتنةً يعتزلونها، ويدعون إلى الصلح، ومن كانوا أقرب إلى موقف صدام حسين، باعتباره يخوض معركة الأمة ضد الأطماع الأميركية والصهيونية.

غضب السعوديون من موقف "الإخوان"، وعبّر ولي العهد السابق، الأمير نايف بن عبد العزيز، وكان في حينه وزيراً للداخلية، عن ذلك في مقابلة صحافية منشورة. غير أن تحول "الإخوان" من حليفٍ إلى خصم، لم يدفع وزارة الداخلية إلى ملاحقتهم، سواء من كانوا سعوديين أو مقيمين أو زواراً. على العكس، كان يحصل أحياناً تقاربٌ وحفاوة، كما حصل مع مؤسس حركة حماس وزعيمها، الشيخ أحمد ياسين، الذي استُقبل في المملكة في عام 1998، بعد الإفراج عنه، من أعلى المستويات، وكانت قياداتٌ إخوانيةٌ عالميةٌ لا تجد مجالاً للقاء إلا في مواسم الحج والعمرة.

قبيل الربيع العربي، دعيتُ، مع مجموعة من الباحثين والصحافيين الأردنيين، إلى احتفال توزيع جائرة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام والمسلمين. كان المكرّم فيها رئيس الوزراء التركي في حينه، رجب طيب أردوغان، الذي تسلّم الجائزة من الملك عبدالله بن عبدالعزيز. وألقى الشيخ محمد بن صالح العثيمين قصيدة مدحٍ له في الاحتفال الذي لم يغب عنه أميرٌ في العائلة المالكة. وأعلنت الأمانة العامة منح "دولة الرئيس رَجَب طَيِّب أردُوغَان، والَّذي يُمثِّل أنموذجاً للقيَادة الواعيَة الحكيمة في العَالم الإسلامي الجائزة، فقَد قَام بجهُودٍ عظيمةٍ بنَّاءة؛ وطنيّاً وإسلَاميّاً وعَالميّاً". يومها التقيت جمال خاشقجي، برفقة نواف عبيد الذي كان شخصية نافذة في الديوان الملكي السعودي، لم أجد فارقاً بين الاثنين، على اختلاف خلفياتهما الفكرية، فكلاهما يعتبر نفسه جزءاً من الدولة السعودية، لكن جمال كان يرى أن التيار الإسلامي المعتدل الذي يعبر عنه "الإخوان" وأردوغان هو ما يحقّق مصالح السعودية، وليس التيار السلفي الوهابي كما كان يرى عبيد. راهنت الدولة السعودية على جمال في مواقع كثيرة، سواء في توليه مناصب إعلامية رفيعة، أو العمل الديبلوماسي مع السفير في لندن ثم في واشنطن، تركي الفيصل، على الرغم من جذوره الإخوانية. ولم تخلُ علاقته مع الدولة من منغّصاتٍ، وصلت إلى درجة سحب جواز سفره، ومنعه من السفر، لكن أحداً في الدولة السعودية لم ير يوماً في جمال شخصاً "خطيراً"، بسبب خلفيته أو "تعاطفه مع الإخوان". وحتى محمد بن سلمان، بكل شراسته، لم يكن يراه كذلك فترة طويلة، ولو كان يراه كذلك لما تردّد في اعتقاله وتصفيته في السعودية قبل أن يغادرها. أكثر من ذلك، اتصل المستشار في الديوان الملكي، سعود القحطاني، بخاشقجي، وشكره باسم ولي العهد على مقاله عن السماح للمرأة السعودية بقيادة السيارة. قد يكون ذلك استدراجاً له بعد خروجه، وقد يكون محاولةً لاستمالته وتدجينه. بالنتيجة، تغيّر التقييم لجمال من صحافي إلى إخواني وخطير، ولا حل معه غير التصفية. فكيف وصل إلى هذه النقطة؟

تؤكّد مصادر على اطلاعٍ واسعٍ أن التحوّل يعود إلى ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، وسفيره في الولايات المتحدة، يوسف العتيبة، بعد خروج جمال خاشقجي من البلاد، فالسعوديون لم يكونوا يروْن فيه خطراً، كان من الممكن، في نظرهم، إسكاته (كما حصل سابقاً) ويمكن احتواؤه. ولكن الرد الإماراتي كان يراه "أخطرهم"، فنظرية محمد بن زايد ترى أن الخطر الوحيد في المنطقة، حتى قبل الربيع العربي، يتجسّد في "الإخوان المسلمين". وأن الطريقة الوحيدة للتعامل معهم هي الاستئصال، وهذا ما طبّقه حرفياً. فكل "الإخوان" في الإمارات معتقلون، ومنهم من اختطف من إندونيسيا. وفي مناطق النفوذ الإماراتي، كاليمن، تمت تصفية عددٍ من قياداتهم. والإمارات داعمة لعبد الفتاح السيسي في مصر، في خطى استئصال "الإخوان" من الحياة العامة.

اعتنق محمد بن سلمان أفكار معلمه محمد بن زايد، ومارسها وفق شخصيته الأكثر شراسةً وعنفاً، وربما كشفه سوء حظه، فيما يحالف الحظ معلمه الذي لا يزال يبدو مستبداً قاسياً، غير وحشي إلى درجة التقطيع والإذابة.

السؤال الأهم، والذي يعرف محمد بن سلمان إجابته بدقة: لو لم يتأثر بفكر محمد بن زايد الاستئصالي، هل كان أقدم على جريمةٍ بهذه الوحشية؟ الجريمة بكل تفاصيلها المروّعة هي تجسيد لفكرة الثورة المضادة التي تقودها الإمارات، والتي تقوم على استئصال المعارضين، برميهم في السجون، وتركهم نهباً للجوع والأمراض، أو بتصفيتهم وإذابتهم.

اختلف جمال خاشقجي مع "الإخوان المسلمين" كثيراً، لكنه لم يقبل باستئصالهم، واختلف مع دولته، ولم يقبل الثورة عليها. كان يؤمن بحق الناس في أن يختلفوا مع أمير، ويتناولوا طعام العشاء معه. هكذا كتب يوماً عن مستقبلٍ يحلم به. لنتخيّل، لو فعل محمد بن سلمان هذا مع جمال خاشقجي؟.

أضف تعليقك