• الصلاة القادمة

    العصر 13:46

 
news Image
منذ ثانية واحدة

في يومٍ من أيام فرعون، وقف أمامه رجلٌ مؤمن من قومه ينتصر لنبي الله موسى ويقْرع الطاغية بالحُجّة، فلما تسلل القلق إلى فرعون سعى لأن يكون خطابه الإعلامي مؤكِّدًا للرواية الرسمية للدولة بشأن الموقف من موسى، تفاديًا لتسرب الشك إلى نفوس الأتباع المُغيَّبين، فقال “مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ”، قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: “أي ما أُشير عليكم إلا ما أرى لنفسي، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد في تكذيب موسى والإيمان بي.

عادات المُستبدين متشابهة، فدائمًا يكون اللعب على توجيه الرأي العام وفق رؤيتهم وروايتهم للأحداث وتفسيرها، الأمر إذن يحتاج منه فقط إلى تغييب وإضلال عقول الشعب، وفرض عزلة عليها ومنْعها الاستقاء من مصادر أخرى، فيزرع فيها ما يزرع، ويلغي منها ما يلغي، فتبقى مع هذا الاستخفاف مُروَّضة مُطيعة.

لم يترك رئيس النظام المصري فرصة للعقول المصرية للتفكير والتحليل والاستنتاج، فهو يكمم الأفواه ويكسر الأقلام، ويحجب المواقع والقنوات السابحة عكس تياره، ويطلق آلته الإعلامية لإغراق الناس في ظلمة الرواية الواحدة، لئلا يروا إلا ما يرى.

الأعمال الدرامية من أفلام ومسلسلات بعظم حجمها في التأثير وتوجيه الرأي العام، هي إحدى الأدوات الرئيسية للنظام، لدعم روايته ورؤيته والتأكيد عليها لدى شعبه لتصبح روايتهم الرسمية، حتى يصبح الشعب ذاته متكلمًا بلسان الزعيم. كشأن معظم العرب، كنت شغوفة بالدراما المصرية، لكنه لم يعدْ مُتاحًا لي متابعة أعمالها، إلا أن بعضهم أشار عليّ بمشاهدة مسلسل مصري عُرض في رمضان الماضي بعنوان “كلبش 2” (الكلبش هو جهاز معدني لتقييد الرسغين)، وأُخبرتُ أنه مُفخّخ سياسيًا، وخاصة العشر حلقات الأخيرة، وبالفعل شاهدت بعضها، ورأيت ما رأيت.. رأيت المثالية التي ظهرت بها أجهزة الأمن المصرية البعيدة كل البعد، بحسب المسلسل، عن التعسف والجور والاستبداد في التعامل مع المواطنين في القضايا السياسية، لكنه أدهشني موقف أحد المسؤولين البارزين في جهاز أمني رفيع المستوى يستقبل أحد الإرهابيين البارعين في صناعة المتفجرات والأحزمة الناسفة وتفخيخ السيارات، وفي لقطة مفعمة بالإنسانية يُطلق سراحه فورًا، لأن أعماله كانت خارج حدود بلاده، وبرّر ذلك لأحد مساعديه بأنهم لابد لهم من احتواء أبنائهم العائدين، فقلت ما شاء الله على الرحمة، تذكرت ساعتها التصفية الجسدية للعُزّل في سيناء، دونما تحقيق وهدم البيوت على أهلها، وتذكرت ما قرأتُه عن الملف الحقوقي للنظام المصري، وحالات الاختفاء القسري، والإفراط في توسيع دائرة الاشتباه ونحوه، لكن هكذا أراد النظام للشعب، أن يُصدق ما يُقال عن مواجهة الإرهاب الذي لا يُراد له الزوال أصلًا، لكي يبقى الشماعة التي يُعلق عليها الرجل فشله. رأيت المسلسل يُطنطن كثيرا حول دعم تركيا للإرهاب في مصر خاصة، فالخلية الإرهابية تخضع مباشرة لغرفة عمليات في تركيا، ولم ينسَ القائمون على المسلسل إبراز الوجه القذر لتركيا في علاقتها بالكيان الإسرائيلي والتنسيق معه في العمليات التي تستهدف مصر، فأحد أبرز أعضاء الخلية – الذي تولى إمارتها بعد مقتل أميرها الأصلي- كان جاسوسًا لإسرائيل داخل مصر، وكانت هناك لقطة مهمة في المسلسل يتحدث فيها مسؤول في مكتب الاتصال بتركيا – وخلفه صورة أردوغان في الكادر- بنظيره ال إسرائيلي حول هذه الخلية وزعيمها (الجاسوس الإسرائيلي الذي أصبح أمير الجماعة).

ولمزيد من دعم هذا الوهم لدى المشاهد، حرص المسلسل على إظهار اتفاق المصريين جميعًا، سواء كانوا أمنيين أو مدنيين على أن تركيا هي الراعي الرسمي للإرهاب في مصر، وهو عين المراد لدى النظام المصري الذي يناصب تركيا العداء بسبب موقفها الرافض للانقلاب على الشرعية، وإيواء المعارضين المصريين على أراضيها، فكان لابد من شيطنة الأتراك، إضافة إلى وأد أي تعاطف مصري مع المواقف التركية الجادة في القضايا المختلفة، والإنجازات المتتابعة لحكومتها رغم كل الأزمات والصعوبات والتحديات.

عادات المُستبدين متشابهة، فدائمًا يكون اللعب على توجيه الرأي العام وفق رؤيتهم وروايتهم للأحداث وتفسيرها

كما لم ينسَ القائمون على العمل الخوض في التدخل التركي في الشؤون العربية، وهنا تبرز فُكاهة ذات أبعاد، فتظهر طبيبة سورية هاربة من شبح الدمار، تُمجّد أولًا استضافة مصر للسوريين وفتح أبوابها للمستضعفين، مع أن القاصي والداني يعلم اختلاف حال السوريين بمصر في حقبة السيسي عن فترة ما بعد الثورة وحتى الانقلاب على الرئيس مرسي، فكان هناك تدفُّق هائل للسوريين ومعاملة كريمة لهم من قِبل الحكومة ومؤسساتها وشعبها، وبعد الانقلاب تم ترحيل معظم السوريين أو دفعهم لذلك، لكن لا بأس نتجاوز هذه النقطة. اللافت في حوارات الطبيبة السورية أنها تناولت أزمة بلادها، ثم صرّحت بأن تركيا (هي أُسُّ الفساد) لما يحدث في سوريا، والسبب هو دعمها للمعارضة، وتلك النقطة غاية في الأهمية، ففيها تحميل المعارضة مسؤولية الخراب والدمار في سوريا لا النظام السوري، والمشهد بذلك يدعم وجهة نظر النظام التي ترى شرعية نظام الأسد وضرورة بقائه في مواجهة الإرهاب، إضافة إلى أن دعم النظام المصري لنظيره السوري يدخل في إطار خطّة الأول لملاحقة الإسلاميين خارج البلاد، الذين تتشكل منهم فصائل عديدة للمعارضة.

الطبيبة السورية في المسلسل لم تُشر من قريب أو بعيد للعربدة الإيرانية في سوريا، والمجازر التي ارتكبها الحرس الثوري الإيراني، ولم تتطرق إلى الدمار الذي خلّفته الطائرات الروسية بين المدنيين، ولم تتناول تدخل حزب الله والميليشيات الموالية لإيران في المشارق والمغارب للقتال بجوار الأسد ضد شعبه، فقط هي تركيا (أُس الفساد)، لكن هذا ما أراد النظام غرْسه في عقول المصريين. وقطعًا لم ينس صُناّع العمل التعرض لأيديولوجية الإخوان، حيث بدا الحديث عنهم مُعبرًا عما يريد النظام انتشاره، فالإخوان وفق المسلسل جماعة خرجت من عباءتها جميع التنظيمات الإرهابية، مع أن الثابت أن معظم هذه التنظيمات خرجت من رحم التيارات السلفية، كما حرص المسلسل على إقناع المشاهد بتحوّل الإخوان إلى العمل المسلح، استنادًا إلى ظهور تنظيمات مشبوهة غامضة قامت بعمليات إرهابية، إضافة إلى الربط الوثيق بين الإخوان و”داعش”.

النقاشات الفكرية والمنهجية التي دارت في المسلسل تُؤكد أن العمل أشرف عليه خبراء أمنيون وخبراء في شؤون الجماعات الإسلامية، وربما يدعم ذلك لديّ تعرُّض المسلسل للتعريف بكتابين مهمّين استفادت منهما وقامت على مضمونهما توجُّهات التنظيمات الإرهابية، وهما كتاب “حرب العقول وخفايا عالم المخابرات والتجسس” وكتاب “إدارة التوحش”، يبعد أن تكون عناصر الوسط الفني على إلمام بها، وكل ذلك لزوم (كلْبَشة) الشعب المصري فكريا، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

أضف تعليقك