• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

رسالة من الأستاذ محمد مهدي عاكف - المرشد السابع للإخوان المسلمين

بسم الله، والحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله ومن والاه، وبعد..

فإن معاناةَ البشريةِ في عالم اليوم، وما آلت إليه أحوالُها من تصدُّعٍ وشقاءٍ، لجديرٌ بأن يدفعَ كل العقلاء إلى البحث عن سبيلٍ لخلاصها، وطريقٍ لنجاتها، وتلك مسئوليةٌ جليلةٌ آن أوانها، وبخاصةٍ حين نجد أن محنةَ الإنسانِ في عالمنا تزداد، وأن محاولاته للخروج منها باتت رهينةً بمنظومةٍ من القوى السياسية والاقتصادية والفكرية الظالمة، لا تدَع له سبيلاً للفكاك من أسْرها، ولا تبصر طريقًا إلا من خلال رؤيتها العنصرية والمادية التي تسعى لفرضها على العالم كله، فما تزيده إلا خبالاً..

إن الله تعالى لم يخلق الإنسانَ هملاً، ولم يتركه سدى.. ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)﴾ (المؤمنون)، فأرسل إليه رسله، وأنزل عليهم شرائعه وهداه ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة: من الآية 38)، غير أن ذلك الهُدَى ما زال يحارَبُ حربًا لا هوادة فيها، وتثار حوله الأغاليط والأوهام، وتكال له الاتهامات، ويُحال بين البشر والرؤية الصافية له، وتعرُّف أسباب النجاة فيه.

بلاد الإسلام تتعرض لهجمة شرسة

ورغم ما يتعرَّض له الإسلام اليوم من حملاتٍ ظالمةٍ، فإن منظومةَ القيمِ التي تأسس عليها بناؤه تظل هي الأمل في إنقاذ الإنسان اليوم، وتحريره من عوامل ضعفه، وترشيد سعيه؛ ليصوغ عالَمًا يغلب خيرُه شرَّهُ، وتتصل سماؤه بأرضه، وتزهو فيه قيمُ الرحمة والعدل والتواصل الإنساني الرحيب.

ونحن حين نعرض جانبًا من رسالة الإنقاذ التي يقدمها الإسلام لعالمنا اليوم لَنرجو أن تكون دعوةً لأبناء أمتنا لتعود عودًا حميدًا إلى تمام الالتزام بدينها، وللعالم من حولنا وأولي النهى فيه ليرَوا كم تُضيِّع البشرية من عمرها وهي تتخبَّط في دياجير شتى، وسبل الرشاد منها على مرمى حجر.. ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)﴾ (ق).

أيها المسلمون.. أيها الناس أجمعون

إن ديننا هو دين الرحمة الشاملة، فالله تعالى هو الرحمن الرحيم، افتتح كل سورة من كتابه بقوله: (بسم الله الرحمن الرحيم)، ونبينا- صلى الله عليه وسلم- هو نبي الرحمة، وصفَه ربه بقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)﴾ (الأنبياء)، وهو القائل: "من لا يَرحم لا يُرحم"، وقد امتدت رحمته لتشمل طير السماء وبهائم الأرض، فقد رقَّ رسولنا- صلى الله عليه وسلم- لطائرٍ أخذوا منه فرخيه، فقال: "من فجَّع هذه بوليدها؟ ردُّوا ولديها إليها"، ونهى عن التحريش بين البهائم رحمةً بها، وأخبرنا أن "امرأة دخلت النار في هرة حبستها حتى ماتت، فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض"، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لو عثرت بغلة في العراق لخشيت أن يسأل الله عنها عمر: لِمَ لم تمهِّد لها الطريق؟!".

ونحن اليوم نعيش في عالم يفترس فيه الأقوياء الضعفاء، وتصبح هذه القوة فلسفةَ حياةٍ ترى أن البقاء للأقوى، وتغدو سياسةَ دول قامت على إبادة الضعفاء والتنكيل بهم، على ذلك تأسَّست أمريكا، وبه سالت دماء أكثر من مليون جزائري على يدِ الاحتلال الفرنسي، ودماء أكثر من مليون ونصف المليون من الأفغان على يد الاحتلال السوفيتي، وبذات الحجة تُنسَج خيوط المأساة اليوم في العراق و فلسطين وأفغانستان، وتتكامل خيوط المؤامرة في دارفور بالسودان، وبذات المنطق المتوحِّش أُزهقت أنفسُ أكثر من مليون طفل عراقي على مدار 15 سنةً من الحصار الظالم الغشوم، ويتم اليوم تهجير 4 ملايين عراقي خارج أرضهم، ويشيِّعون كل يوم زهاء مائة قتيل أو يزيدون!!

أيها المسلمون.. أيها الناس أجمعون

وجاء ديننا بقيمة العدل مطبقةً، لا نسبيةَ فيها ولا ترخُّص في تحقيقها.. قال تعالى:﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ (النحل: من الآية 90)، وقال: ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ (المائدة: من الآية 2)، والله تعالى حرَّم على نفسه الظلم، وجعله محرَّمًا بين عباده، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ (النساء: من الآية 40)، ورسوله- صلى الله عليه وسلم- يعرِض في مرض وفاته نفسَه للقصاص ممن يظن أن له عنده مظلمةً، وخليفته عمر- رضي الله عنه- يقتص لأحد رعيَّته من غير المسلمين حين يضربه ابن والي مصر، ويقول: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟!".

والعدل في الإسلام ليس خلقًا عامًّا وقيمةً سياسيةً وأمرًا قضائيًّا فحسب، بل هو قيمةٌ اقتصاديةٌ واجتماعيةٌ صارمةٌ، وقد شنَّ أول خليفة للمسلمين أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- الحربَ الشعواءَ على مَن رفض أداء الزكاة، وهي حقُّ الفقير في مال الغني، وقال: "والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة"، وانعدام العدل وفشوّ الظلم يعجِّل بخراب الأمم وانهيار الحضارات.. ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102﴾ (هود).

ملايين يموتون جوعًا وأقلية تستحوذ ثروات العالم

فأين العدل في ميزان الحياة المختلّ من حولنا اليوم؟ إن تقرير التنمية البشرية للأمم المتحدة سنة 2005م يُظهر ذلك التفاوت البشِع في توزيع الثروات بين الأفراد والشعوب على السواء؛ فإجمالي دخل 50 فردًا فقط من أثرياء العالم اليوم يتجاوز إجمالي الدخل لأفقر 416 مليون شخص!! وإن 20% من أثرياء العالم يحصلون على 80% من إجمالي الدخل العالمي، بينما يعيش 40% من سكان عالمنا المنكوب على 5% من دخله!!

وهكذا تتركز الثروات في أيدي نسبة ضئيلة من المترفين، بينما يتضوَّر الملايين جوعًا ويموتون مسغبةً، وهذا الظلم الفادح في توزيع الثروة تعاني منه جماعاتٌ كثيفةٌ داخل الوطن الواحد، فحوالي 36% من الشعب الأمريكي يعيشون تحت خط الفقر، بينما يزداد مترفوه ترفًا.

أما المظالم التي يعاني منها عالمنا العربي والإسلامي فلا تقتصر على استلاب ثرواته وتجويع شعوبه واحتلال أرضه، بل تمتدُّ إلى إثارة الفتن بين أبنائه، وضرب بعضهم ببعض، وفرض الأنظمة الحاكمة المستبدّة الطاغية المدعومة من الغرب عليه، وجعْل شعوبه مختبرًا لأفتك أنواع الأسلحة في ترسانة الغرب، وأرضه مقبرةً لنفاياته الذرية، وتغييب وعيه، ومسخ هويته.

إن ثمن برميل النفط- وهو أجلّ ثرواتنا المادية- غدا أرخص من برميل المياه التي يتفنَّنون في إثارة الحروب والصراعات لأجلها، وبالرغم من كل ذلك فإن مَن يفلت من ذلك الحصار المرعب ويبرهن على نبوغه العلمي وقدرته على إفادة وطنه فإن إغراءات الغرب الظالم تظلُّ تطارده ليترك وطنه ويهاجر إليه، حتى أصبحت محنة نزيف العقول العربية والإسلامية وهجرتها إلى الغرب حلقةً في سلسلة الحصار العلمي والتقني الخانق لأمتنا.

إن تقرير مؤسسة العمل العربي يشير إلى أن 5.4% فقط من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج يعودون إلى بلادهم، بينما يستقرُّ الآخرون هناك، وإن بلدًا مثل مصر خسرت في السنوات الأخيرة نحو 50 مليار دولار بسبب هجرة كفاءاتها العلمية..!!

أيها المسلمون.. أيها الناس أجمعون

إن ديننا يجلُّ الإنسان ويكرِّمه، فقد خلقه الله بيديه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وسخَّر له السموات والأرض، وجعله خليفته الذي أوكل إليه مهمة عمارة الأرض، وفق منهجه ومراده، وأعلن تكريمه وأعلا قدرَه، فقال:

﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ (الإسراء: من الآية 70)، وأحاطه برعايته قبل أن يولَد، فحرَّم الإجهاض، وبعد ولادته شرع الاحتفاء بقدومه، واستمرَّ حتى وفاته، ففرض غسله وتكفينه ودفنه، وجعل إيذاء الميت كإيذاء الحي، وكفل له حرية الاعتقاد﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ (البقرة: من الآية 256) وحقه في الملكية الخاصة، وحريته في التفكير والاجتهاد والنظر، وجعل لكل مجتهد أجرًا، وطالبه بالتعبُّد إليه بأداء حقوقه السياسية، فكلَّفه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعل حقوق الإنسان غير مرتبطة بجنسه أو دينه أو وطنه، وليس مقبولاً اليوم أن نستسلم لهذه النظرة العنصرية الضيقة التي تُعلي حقوق الإنسان الغربي والأمريكي وتهدر حقوق غيره.

دماء المسلمين تسيل في فلسطين والعراق

إن الخطر اليوم ليس مقتصرًا على انتهاك كل حقوق البشر في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها، بل إن الخطر بات يهدد الجنسَ البشري كله إن لم يستسلمْ للمشروع الأمريكي الصهيوني ويَنْقَدْ له، ومن العجيب أن أصحابه يتسلَّحون حتى أسنانهم فيما يخدِّرون أعصاب العالم بدعاوى السلام، فالإنفاق الأمريكي العسكري يصل إلى 455 مليار دولار، أي ما يقارب نصف الإنفاق العالمي، ومن المؤسف أن هذه الترسانة العسكرية الهائلة لا ترى لها عدوًّا أخطر من المسلمين، حتى صرَّح السيد هاري ريد- زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ الأمريكي- بأن بلاده تنفق شهريًا على الحرب في العراق 12 مليار دولار!!

لقد أصبح واضحًا أن العالم بات مفروضًا عليه أجندة أمريكية خاصة بحكامه من الصهاينة الإنجيليين، تستهدف بقاء الولايات المتحدة القطب الأوحد في عالمنا، ولو كان ذلك على حساب سلامة العالم كله وأمنه، ونحن على يقين بأن الأجندة الأمريكية والغربية المطروحة باتت تفقد أنصارها يومًا إثْر يوم، بعدما رأى العالم حصادها المر، وأن مشروعنا الإسلامي الأصيل الذي نعرض اليوم طرفًا من قيمه الأساسية يكتسب كلَّ يوم أرضًا جديدة.. ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ (البقرة: من الآية 138).

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.. وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين.

 

أضف تعليقك