• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

رسالة من محمد مهدي عاكف المرشد العام للإخوان المسلمين

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وبعد،،،

فنقف لنتذكر مع مطلع كل عام هجري جديد نقف لنلقي نظرة على قيمنا، وأمجادنا، وتاريخنا، وحاضرنا، ومستقبلنا.. نقف لنتذكر كل صنوف العنت والمعاناة التي واجهها المسلمون في مكة على يد صناديد قريش، وأن الله تعالى قد اختار لهذه الدعوة منذ أول يوم ميدانًا من أشد الميادين شراسة وضراوة.

نقف لنتذكر المهاجرين الأوائل إلى الحبشة وبيعة العقبة الأولى والثانية، وما صنعه مصعب بن عمير مبعوث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، ثم هجرته- صلى الله عليه وسلم- وصاحبه إليها في العام الثالث عشر بعد البعثة، نقف لنتذكر بناء أول مسجد في المدينة، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وبين الأوس والخزرج، نقف لنتذكر قول الحق تبارك وتعالى ﴿لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ ورِضْوَانًا ويَنصُرُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ* والَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ والإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ ولا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا ويُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ (الحشر: 8،9).

نقف لنتذكر قول النبي - صلى الله عليه وسلم- : "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها"، وقوله حينما سئل: أي الهجرة أفضل يا رسول الله؟، قال: "أن تهجر ما كره ربك"، نقف لنتذكر تلك النظرة العبقرية العمرية إذ جعلت هجرة المصطفى- صلى الله عليه وسلم- بداية تأريخ أمة الإسلام على أساس أنها تمثل حدثًا جللاً في تاريخ الإسلام والمسلمين.

 

الهجرة.. إعداد وجهاد

وليقرأ المسلمون صحائفَ الهجرة مفكرين، متعظين، متدبرين عبرها، متفهمين دروسها، فاجعلوها هاديًا لكم في جهادكم، إذا أَلَمَّ بكم حدث، أو نزل بكم ظلم، أو نابتكم نائبة، أو لاحقكم طغيان.

إن الهجرة وليدة تفكيرٍ طال به العهد، وأُعِدَّت له العدة، ونُظِّمت له الطرق، ولم تكن فرارًا من شقاءٍ إلى نعيم، ولم تكن ترك جهدٍ إخلادًا لراحة، بل إن جهود المسلمين بعد الهجرة تضاعفت، ومسئوليتهم كَبُرت، واتسعت، وعلموا أنهم دعاة الناس جميعًا إلى الهدى والرشاد.

إن الهجرة لجوءٌ إلى كل حركة تخدم الدعوة، وهجرة من أسلوب إلى أسلوب، ومن خطة إلى خطة، وتفتيح لمسالك التحرك المثمر، فالداعية الواعي إذا تعثرت به خطة لجأ إلى غيرها؛ سعيًا إلى الله، وحرصًا على رضاه، واستجلابًا للنتائج الطيبة، هذا مع الالتزام الكامل بأصول دعوته وفروعها، غير مُبدِّل بحجة التطور، ولا مُغَيِّر بحجة التجديد.

الهجرة.. وإقامة الدولة

لم تكن الهجرة فرارًا ولا هزيمة، ولا قعودًا، إنما كانت حركة، شهد معها العالم لأول مرة في تاريخه مجتمعًا إنسانيًا يقوم على: شريعة كاملة، وأمة فاضلة، ودولة عادلة.

فأما الشريعة فقد قامت في المدينة على: التوحيد، الذي تتفجر به في النفس الإنسانية أصفى منابع الشعور والتسامي.

وعلى العمل الصالح الذي يفيد صاحبه وينفع الناس.

وعلى الجزاء في الدنيا بالقصاص المدني والرباني، وفي الآخرة بالعذاب والإيلام.

وأما الأمة فقد قامت على الحب بين جميع عناصرها المختلفة، كما قامت على الوحدة في كل مظاهر حياتها، وتصرفاتها، ولقد سبق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كل النظم الاجتماعية العصرية، في تقرير أن رباط المصلحة القومية لا يتنافى أبدًا مع الخلاف في العقيدة الدينية، وتأكيد ذلك بوثيقة سياسية، هي ولا شك أول معاهدة من نوعها في التاريخ، كما قامت هذه الأمة بعد الوحدة والحب على الإخاء والتكافل العملي في كل نائبات الحياة.

وأما الدولة فقد قامت على العدل التام، الذي يجعل رئيسها الأعلى يعلن في وضوح أن فاطمة بنت محمد - صلى الله عليه وسلم- لو سرقت لقطع يدها، كما قامت على الفداء، فكل عضو من أعضائها على تمام الاستعداد لبذل دمه وروحه وماله في سبيل إعلاء كلمة الله.

لا ضعف ولكن قوة.. لا تردد ولكن إقدام

إن الأهوال والصعاب سمة من سمات الدعوات الخيِّرة، وستظل المحاولات الضارية تذهب وتجيء ضد الإسلام، وستظل قوى الشر تحاول وتضغط على المسلمين في كل مكان على الأرض فيه مسلمون، ليصرفوهم عن دينهم، ولكن الزمان يسري في بطون التاريخ قرنًا بعد قرن، حافلاً بما يُدَبَّر فيه للمسلمين، ومع ذلك سيظل المسلمون مسلمين رغم أنف الدنيا ومن فيها: ﴿.. ولا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا.. ﴾ (البقرة : 217).

والواقع شاهد: فقد حُلَّت جماعة الإخوان مرارًا، وسُجن رجالها وعُذبوا، واغتُيل مرشدها، فماذا كانت النتيجة؟ عادت الجماعة في كل مرةٍ أقوى مما كانت، واشتاقها الشباب للتفتح على إشراق دعوة الله، يستوضحون أمرها، ويُؤمنون بتعاليمها، ويتجهون نحوها، ويتحدثون عن شهدائها، في حبٍّ وإكبار، وبلغ صوتها مشارق الأرض ومغاربها، في غير ما عنف، ولا تخريب، ولا إرهاب، ولكن عن طريق الأثر الطيب، والأسوة المجيدة، والقدوة اللامعة المضيئة.

وعلى مثل هذا الثبات، والتضحية، واليقين، والرجولة تقوم عزة الدعوة، وتنتصر، وتسود، أما لو طلب كل مسلم السلامة لنفسه، ولم يبادل خصوم الدعوة نزالاً بنزال، لخلا الميدان للطغاة الظالمين يصولون فيه ويجولون... لا رادع، ولا مناضل، ولا مُنكِر، ولا حسيب.

 

إن طلب السلامة في مواقف الرَّوع، إن لم يُقَدِّرها صاحب الملك والملكوت، رب العزة والجبروت، لن يحصل عليها طالبها، حتى ولو تَمَرّغ في قذارة المداهنة والنفاق، وقد حدث في العهد القريب غير البعيد، أن آثر بعض الدعاة السلامةَ على الفداء، بالسير في ركاب الظالمين، فلم يغنِهم ذلك الهوان من الله شيئًا، فنالهم من السجن والاعتقال ما نال غيرهم من الأُباة النافرين من المذلة، المُنكرين للابتذال ﴿وتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ومَا يَعْقِلُهَا إلا العَالِمُونَ﴾ (العنكبوت : 43).

ذكرى استشهاد الإمام البنا

وتأتي ذكرى الهجرة مواكبة للذكرى السادسة والخمسين من استشهاد الإمام المجدِّد "حسن البنا"، شهيد الحق والعدل والحرية، شهيد القضية الفلسطينية، قضية العروبة و الإسلام الأولى، لقد استشهد الإمام الجليل بعد حياةٍ قصيرة بمقاييس البشر، ولكنها حياة طويلة حافلة بمقاييس البذل والتضحية والفداء.

لقد كان هتافه الدائم "الجهاد سبيلنا" عنوانًا تجسَّد في المجاهدين من الإخوان المسلمين على ثرى فلسطين، وكان هتافه الدائم "والموت في سبيل الله أسمى أمانينا"، ترجمة حقيقية لاستشهاد أصحابه وهم يواجهون عصابات بني صهيون، واستشهاده- أيضًا- وهو يواجه عملاء الخيانة الذين تواطئوا مع خصوم الإسلام والمسلمين على قضية فلسطين.

لقد أخلص الإمام البنا قلبه لله.. فكان الله تعالى له، وكانت هذه الشجرة الوارفة الظلال التي تمتد فروعها في كل قارات العالم؛ فقد استطاع بثاقب فكره وبُعد نظره- ومن قبل ذلك وبعده توفيق الله له- أن يعيد للإسلام رونقه وبهاءه، وأن يزيل عنه ما حاول المبطلون والجاهلون إلصاقه به، وأن يرجع به إلى منابعه الصافية، استطاع الإمام البنا أن يقدم الإسلام، كما جاء به محمد- صلى الله عليه وسلم- نظامًا شاملاً يتناول مظاهر الحياة جميعًا، فهو كما يقول "دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة وكسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء".

 

ويقول رحمه الله في موضع آخر: "حدثوني بربكم أيها الإخوان ، إذا كان الإسلام شيئًا غير السياسة وغير الاجتماع، وغير الاقتصاد، وغير الثقافة، فما هو إذن؟".

لقد استطاع الإمام البنا أن يوقظ شعبًا ويحيي أمة، وأن يربى جيلاً فريدًا على أساس صحيح من العقيدة والوحدة والارتباط، وأن يجمع الكلمة ويوحد الصفوف، وأن يضع منهاجًا يبدأ من الفرد المسلم والأسرة المسلمة فالمجتمع المسلم الذي يطبق الإسلام بشموله وكماله.

مؤتمر شرم الشيخ

انعقد في شرم الشيخ مؤتمر القمة الرباعية، الذي ضم مصر والأردن والسلطة الفلسطينية والكيان الصهيونية|الصهيوني يوم الثلاثاء 8 فبراير 2005م، ولم ينته المؤتمر إلى شيءٍ سوى التهدئة بين الطرفين والاتفاق على إيقاف النار(!!) من قِبل الفصائل الفلسطينية في مقابل وقف العمل العسكري الصهيوني، وكأنه لا يوجد مُعتدٍ ومُعتدًى عليه، وكأنه لا يوجد احتلال للأرض والمقدسات الفلسطينية.

ولم يحصل الفلسطينيون على شيء سوى أمل، مجرد أمل.. بالنظر- في المرحلة التالية- بتحسين الأساليب المعيشية، وفتح المعابر، والإفراج عن المئات من الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال- والذين يقدر عددهم بثمانية آلاف معتقل وأسير- وذلك في مقابل تجميع السلاح من الفصائل الفلسطينية، ووقف عسكرة الانتفاضة، وبل تركيع الشعب الفلسطيني.

إن وراء الكيان الصهيوني كثيرًا من الأوراق الضاغطة وهي احتلال الأرض والمغتصبات والجدار العازل، والاعتداءات العسكرية المتكررة التي يمكن أن تقع في أية لحظة، فضلاً عن حصار الجوع والموت، أما السلطة الفلسطينية فليس لديها غير الانتفاضة، ووحدة الفصائل الفلسطينية، وإرادة الشعب الفلسطيني، وسلاح المقاومة الذي يمثل الورقةَ الأقوى في مواجهة عدوٍ لا يفهم غير لغة القوة، فهل تتنازل السلطة عن ذلك كله؟ وفي مقابل ماذا؟ لقد ثبت فشل المفاوضات التي كانت تُتخذ ستارًا لإقامة المزيد من المغتصبات، وفرض سياسات جديدة على أرض الواقع، إضافة إلى المجازر الوحشية والأعمال البربرية التي ترتكب في حق الشعب الفلسطيني.

 

على السلطة الفلسطينية أن تعي ذلك كله جيدًا قبل المضي قُدمًا في أية خطوات قادمة، وعلى الفصائل الحفاظ على وحدتها وسلاحها؛ فهو الضمانة الأكيدة في إدارة الصراع بينها وبين العدو الصهيوني، ولتتذكر المقاومة أنها تدافع عن كرامة الأمة وشرفها.

ولله الأمر من قبل ومن بعد، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

القاهرة

في: الأول من المحرم 1425هـ

الموافق 10 من فبراير 2005م.

أضف تعليقك