• الصلاة القادمة

    الظهر 11:01

 
news Image
منذ ثانية واحدة

الدكتور فتحي يكن

قيمة التوازن في كل أمر

والتوازن في العمل الإٍسلامي أشبه بصمام الأمان فيه، لأن عدم توازنه يؤدي حتمًا إلى فشله وتعثره.

وإذا كان التعامل يتعلق بمساحة العمل الإسلامي من حيث الشمول والكلية، فإن التوازن يتعلق بنوعية هذا العمل من حيث مقاديره ومعاييره.

فالتوازن في العمل الإسلامي يعني إعطاء كل جانب من جوانب العمل وزنه ومعياره اللازمين من غير زيادة ولا نقصان، وإلا أدى إلى وقوع الخلل.

قيمة التوازن في كل أمر:

التوازن هو تعادل الأوزان والمعايير وعدم تفاوتها بالنسبة لكافة الأمور المادية منها والمعنوية.

والتوازن قوام كل أمر مركب، ومؤشر الصحة والعافية فيه، وإليك بعض الأمثلة:

ـ فالجنون مثلاً: نتيجة لعدم توازن القدرات العقلية والعصبية ، فيقال: إنسان غير موزون .

ـ والصرع: من أسبابه زيادة الكهرباء في دماغ الإنسان.

ـ وفقر الدم أو ضعفه: نتيجة عدم توازن الكريات البيضاء والحمراء في الدم.

ـ ثم إن زيادة سائل الأذن قد يتسبب بالإغماء لدى الإنسان، كما يتسبب ضغط العين أو القلب بانعكاسات صحية خطيرة.

هذه بعض النتائج التي يخلفها عدم التوازن لدى الكائن البشري، وهنالك عشرات الأمثلة الأخرى على ذلك، أما نتائج عدم التوازن في الكون والحياة فأكثر من أن تحصى.

ـ إن تغير نسبة الأوكسجين في الهواء تجعله ملوثًا وقد تجعله سامًّا قاتلاً.

ـ إن تغير المعادلة المتوازنة في دوران الأرض والشمس والأفلاك ينتج عنه كثير من الأمور أقلها اختلال انتظام الليل والنهار وتعاقب الفصول، وما يؤدي ذلك من أضرار على الإنسان والحيوان والحياة بكاملها.

ـ حتى فيما يصنعه الإنسان من (آلات وماكينات)، وما يشيده من (عمارات وجسور) فجميعه محكوم بقاعدة التوازن، وأي خلل في المقادير والمعايير يتسبب بنتائج خطيرة ومأسوية.

قيمة التوازن في العمل الإسلامي

والعمل الإسلامي الصحيح المعافى، هو العمل القائم على منهج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، المتكامل في جوانبه وتوجهاته، المتوازن في معاييره ومقاديره وأولوياته.

وعندما يطغى على العمل جانب من الجوانب، أو يكون الاهتمام بجانب دون جانب يحدث الخلل سواء في (تكوين الشخصية الإسلامي) أو في (توجه المسيرة الإسلامية) وبالتالي تكون النتائج غير سليمة بنسبة الخلل الذي حدث.

فإذا كان من الواجب (تكامل العمل الإسلامي وشموله)، فإن من الواجب كذلك (توازنه) بحسب موقع كل جانب وأهميته من العمل الإسلامي أو الشخصية الإسلامية.

منطق الأولويات مدخل إلى التوازن

ولتحقيق التوازن في (الشخصية الإسلامية) أو (المسيرة الإسلامية) أو (التغيير الإسلامي) لا بد من فهم صحيح (للمنهج الإسلامي) من خلال المبادئ والأسس والقواعد التي جاء بها، ومن خلال التطبيق الذي قام به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسار عليه السلف الصالح ـ رضي الله عنهم وأرضاهم ـ لمعرفة أولويات العمل واتجاهاته ومعاييره ومقاديره..

فمن التوازن أن يكون الرأس الذي فيه الدماغ ـ لدى الإنسان ـ وموضعه أعلى الجسم هو الجهاز الذي ينظم الحركات والتصرفات ، وليس أي عضو آخر في جسم الإنسان، ولهذا فهو في موقع متقدم من الجسم وسائر الأعضاء بحسب منطق الأولويات .. بل لا بد من التعامل معه كذلك وبحسب هذا الموقع.

ولكن هذا الموقع المتقدم ( للدماغ القائد ) في جسم الإنسان، لا يلغي بالضرورة قيمة أي عضو من أعضاء الإنسان مهما كان بسيطًا، فلكلٍّ دور ووظيفة مهمين في نطاقه وإطاره..

هذا التكامل في جوانب البنية الجسدية للإنسان، أشبه بالتكامل في البنية الحركية، وما يفرضه منطق الأولويات من توازن في هذا يفرضه تمامًا في ذلك.

كيف تصنف الأولويات في العمل الإسلامي

إن العمل الإسلامي المتعدد الجوانب الشامل المقاصد يحتاج إلى تصنيف هذه الجوانب والمقاصد بحسب سُلَّم الأولويات في تصنيف الأعمال وتحديد مواقعها من حيث الأهمية، وبما يشير كذلك إلى أهميتها جميعًا...

الجانب العقيدي والتربوي:

إن منطق الأولويات يعتبر الجانب العقيدي أساسًا لكل عمل، بل لا قيمة لأي عمل بدونه.. ولهذا كان في موقع متقدم معتبر في كتاب الله ـ تعالى ـ حيث يقول مقررًا: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ومن يشرك بالله فقد افترى إثمًا عظيمًا } ( النساء: 84 )، {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيدًا} ( النساء : 115 ) .

فقه العقيدة والشريعة:

مقدم على العلوم العامة والثقافات المختلفة، وهو متقدم معتبر بحسب سُلَّم الأولويات، ففي كتاب الله ـ تعالى ـ: { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} ( المجادلة : 11 ).

 

وفي هدي النبوة: ( من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين ) متفق عليه.

وروي أن رجلاً جاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: علمني من غرائب العلم، فقال له: ( ما صنعت في رأس العلم ؟ ) فقال: وما رأس العلم ؟ قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( هل عرفت الرب ـ تعالى ـ ؟ )، قال : نعم ، قال: ( فما صنعت في حقه ؟ )، قال: ما شاء الله ، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( هل عرفت الموت ؟ ) ، قال : نعم ، قال: ( فما أعددت له ؟ ) قال: ما شاء الله ، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ :( اذهب فأحكم ما هناك ثم تعال نعلمك من غرائب العلم ) إحياء علوم الدين .

وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ) .

وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على وجوب الأخذ بمنطق الأولويات في كل شيء .. ففي العلم أولويات .. وفي العبادة أولويات .. وفي الجهاد أولويات .. وفي العمل الاجتماعي أولويات .. وفي العمل السياسي أولويات .. والسير من غير ملاحظة للأولويات سير على غير هدى وبدون وعي .

العبادة ومنطق التوازن :

ثم إن العبادة نفسها ـ بالرغم من عظيم قيمتها في شرع الله ـ فإنها تخضع في إطار التوازن ـ لمنطق الأولويات .. ففي قوله ـ تعالى ـ : { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } ( الجمعة : 10 ) دعوة بينة للتوازن بين الصلاة والعمل المعيشي ، لاعتبار أن العمل المعيشي نفسه في مفهوم الإسلام عبادة ، ومخالفة هذا المفهوم يؤدي إلى خلل في التوازن الإسلامي ، وهذا ما حدا بعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ إلى أن يضرب بعصاه رجلاً بقي في المسجد يهمهم بالقرآن بعد أن فرغ الناس من الصلاة والدعاء قائلاً : ( قم ، لا تمت علينا ديننا أماتك الله ) ، وروي أن رجلاً أتى جبلاً يتعبد فيه ، فجيء به إلى الرسول فقال له : ( لا تفعل أنت ولا أحد منكم ، لصبر أحدكم في بعض مواطن الإسلام خير له من عبادة أحدكم وحده أربعين عامًا ) .

القوة ومنطق التوازن

ونعني بالقوة هنا القوة العسكرية ، وهذا الجانب له في الشرع موقع ومساحة معتبرين ، ولكن هذا الموقع والمساحة يتغيران ـ يكبران ولا يصغران ـ بحسب الظروف والأوضاع التي يعيشها الإسلام.

فإن كان الإسلام في ظروف طبيعية لم يكن القتال أساسًا في حياة المسلمين .. أما إن كان الإسلام في ظروف عصيبة ، معتدى عليه ، محارب العقيدة والأفكار ، مجتاح الأهل والأبناء والديار ، فإن الجهاد والقتال هنا يصبح فرض عين على المسلمين ، ويصبح كل عمل آخر ضربًا من اللهو والفرار من الزحف .. وصدق عبد الله بن المبارك حيث كتب رسالة إلى أحد أعز إخوانه وقد فضل الاعتكاف في المسجد الحرام على الجهاد ، قال فيها :

يا عابد الحرميـن لـو أبصرتـنـا

لوجدت أنك بالعبادة تلعب

من كان يخضب خده بدموعه

فـنحـورنا بدمـائنا تتـخضب

السياسة ومنطق التوازن :

والاهتمامات السياسية في العمل الإسلامي جانب مهم وخطير ، ولكنها تبقى في أهميتها وخطورتها دون الجانب العقائدي ، فالعقيدة أساس العمل السياسي وكل عمل ، وهي مُحصَّن العمل السياسي وصمام الأمان فيه .

ومن التوازن في العمل الإسلامي أن يأخذ العمل السياسي ـ كما العمل العسكري ـ حجمه وسمته المحددين له ، وإلا غدا العمل السياسي شعارًا بلا محتوى ، بل أصبح غاية لا وسيلة وأداة ، فضلاً عن وقوعه في منزلقات ومتاهات لا يعرف أولها من آخرها.   

 

أضف تعليقك