• الصلاة القادمة

    الظهر 11:01

 
news Image
منذ ثانيتين

الأستاذ جمعة أمين

الصداقة والجوار والعلاقات الاجتماعية غير اللصيقة أولى ألا تشغل المؤمن عن الإيمان بالله ورسوله و الجهاد في سبيله وما يتطلبه هذا الجهاد من تضحيات، وذلك لأن العلاقات الوشيجة كالأبوة و البنوة ونحوها مما ذكرنا، لا ينبغي أن تؤثر ولا أن تفضل على الإيمان بالله ورسوله و الجهاد في سبيله، وعلى هذا فإن العلاقات غير الوشيجة يجب أن يضحي بها من أجل الدين من باب أولى.

 

إن الآية الكريمة -التي أشرنا إليها توجه عاطفتي الحب والبغض، وتجعل الحب حباً لله ولرسوله ولما أمر به، و البغض بغضاً لأعداء الله ورسوله ولو كانوا آباء أو أبناء أو أصدقاء أو جيراناً، فتحرم مصادقة الفاسقين و العصاة، ومن يكونون بأقوالهم وأعمالهم حيث نهاهم الله تعالى.

 

وفي تأكيد هذا المعنى وتقريره نجد قول الله تبارك تعالى {لا تجد قوماً يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها رضى الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون} المجادلة 22 .

 

و الموالاة: التأييد و المظاهرة و الحب و النصح وطلب النصح ممن والاه .

 

وهذه الآية الكريمة تنفي الإيمان عن أولئك الذين يتخذون أعداء الله أولياء، أياً كانت علاقة هؤلاء الأعداء لله ورسوله بمن والاهم من المسلمين إذ يجب أن تبرأ منهم فضلاً عن أن يواليهم، هذه الآية الكريمة توحي ببعض المعاني والتوجيهات نذكر بعضها :

 

إن المؤمنين الذين يضحون بعلاقاتهم -الصداقة و الجيرة و القرابة غير اللصيقة- بهؤلاء الأعداء الذين يحادون الله ورسوله هؤلاء المؤمنون إنما يؤكدون بهذه العداوة إيمانهم بالله ورسوله، وينالون بذلك تأييد من الله في الدنيا وأجراً عظيماً في الآخرة.

 

وإن هؤلاء المؤمنين الذين تبرأوا من أعداء الله ورسوله ولم يوالوهم ، مضحين في هذا البراء بمصالحهم الدنيوية عند هؤلاء، هؤلاء المؤمنون بهذه الصفة هم حزب الله وأوليائه وأحبابه، ومن كانوا حزب الله كتب الله لهم الفلاح ورضى عنهم ورضوا عنه.

 

وهكذا تحبب هذه الآية الكريمة في التضحية في سبيل الله تعالى وسبيل دينه ومنهجه ونظامه ، يقول جل وعلا في معنى قريب من ذلك { الإخلاء يومئذٍ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } الزخرف 67

 

كما توضح أن الصداقة لابد أن تكون لله تعالى وفي الله ، وإلا أصبحت عداوة وندامة يوم القيامة ، فالأصدقاء الذين جمعهم الباطل في الدنيا - مؤمنين كانوا أو كافرين - يصبحون أعداء يوم القيامة ، فتنقطع بينهم كل محبة كانت بينهم في الدنيا لأنها لم تكن لله بل كانت للشيطان، تلك قاعدة عامة في الصداقات بين الناس في الدنيا وما تصير إليه.

 

ويستثنى من هذه القاعدة الذين اتقوا الله فكانت صداقتهم مع الناس لله وفيما يرضى الله تعالى، فلابد إذن أن يضحي المؤمن بكل صداقة قد تجد فيها مصلحة دنيوية مادية أو معنوية من أجل الله ورسوله، ومن أجل أن يرضى الله تعالى عنه، وفي هذا المعنى أو في قريب منه جاء قوله تعالى {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله و اليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } التوبة 18.

 

وهذه الآية الكريمة تدل على أن أهل الإيمان بالله واليوم الآخر الذين يعمرون مساجد الله بحفظ بنائها أو الإقامة فيها و التردد عليها، والذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويعملون الصالحات، ولا يخشون أحداً أو عظيماً خشية تعظيم أو طاعة ، أي أنهم لا يبالون أحداً من الناس مهما كانت تربطه بهم علائق من أي نوع: قرابة أو صداقة أو مصالح متبادلة .

 

هؤلاء يجب أن يضحوا بهذه العلائق إيثاراً لما عند الله وحباً فيه وفيما يأمر به ، هؤلاء بهذه التضحية يرجى أن يكونوا عند الله من المهتدين.

 

وفي قريب من هذه المعاني للتضحية في سبيل الله تعالى، جاء قوله سبحانه وتعالى {ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين} العنكبوت 10.

 

قال ابن القيم في تأويل هذه الآية الكريمة .

والإنسان لابد أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات وتصورات فيطلبون منه أن يوافقهم عليها ن وإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه، وإن وافقهم حصل لهم العذاب تارة منهم وتارة من غيرهم، كمن عنده دين وتقى، حل بين قوم فجار ظلمة، لا يتمكنون من فجورهم وظلمهم إلا بموافقته لهم أو سكوته عنهم.

 

فإن وافقهم أو سكت عنهم سلم من شرهم في الابتداء ، ثم يتسلطون عليه بالإهانة والأذى أضعاف ما كان يخافه ابتداء لو أنكر عليهم وخالفهم ، وإن سلم منهم فلابد أن يهان ويعاقب على يد غيرهم .

 

فالحزم كل الحزم في الأخذ بما قال به أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها لمعاوية رضى الله عنه:(من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مئونة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئاً) .

 

فهذه هي التضحية كما وردت معانيها في القرآن الكريم سواء التي اشتملت على التضحية بالنفس في سبيل الله تعالى أي الجهاد، وعلى التضحية بالمال وبذله في سبيل الله تعالى، في الوجوه التي أوجبها أو حبب فيها، أو التضحية بالقرابات القريبة كالآباء والأبناء والإخوان والزوجات من أجل إرضاء الله تعالى بمعاداة أعدائه، وترك موالاتهم و التضحية بكل منفعة ترد منهم، وأيضاً على التضحية بالصداقات و القرابات البعيدة والجيران من أجل ما أمر الله تعالى، و التضحية بكل منفعة قد يتسببون فيها.

 

كل هذه التضحيات إنما طولب بها المؤمنون إيثاراً لما عند الله واستجابة لأمره وتقرباً إليه وحباً فيه وفي رسوله صلى الله عليه وسلم وكتابه ومنهجه .

 

وسأضرب مثالين فيهما العظة و العبرة و الدروس المستفادة وأول هذين المثالين لامرأة هاجرت إلى المدينة هي أم سلمة لتلحق بزوجها هناك ثم هجرة عمر بن الخطاب وقصته مع عياش بن أبى ربيعة ، ونختم بقصة زيد بن حارثة مع أهله وأسرته .

 

- هجرة أم سلمة إلى زوجها:

 

قال بن اسحاق : فكان أول من هاجر إلى المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين ، من قريش ، من بنى مخزوم أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، واسمه عبد الله ، هاجر إلى المدينة قبل بيعة أصحاب العقبة بسنة ، كان قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة من أرض الحبشة ن فلما آذته قريش وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار خرج إلى المدينة مهاجراً .

 

قال ابن إسحاق: فحدثني أبى إسحاق بن يسار عن سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبى سلمة عن جدته أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره ثم حملني عليه ، وحمل معي ابني سلمة بن أبى سلمة في حجري ن ثم خرج بي يقود بي بعيره ، فلما رأته رجال بنى المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم قاموا إليه فقالوا هذه نفسك غلبتنا عليها ، أرأيت صاحبتك هذه ؟ علام نتركك تسير بها في البلاد ؟ قالت : فنزعوا خطام البعير من يده فأخذوني منه .

 

قالت: وعند ذلك غضب بنو عبد الأسد رهط أبى سلمة ، فقالوا : لا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا ، قالت : فتجاذبوا بنى سلمة بينهم حتى خلعوا يده وانطلق به بنو عبد الأسد ، وحبسني بنو المغيرة عندهم ، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة ، قالت : ففرق بيني وبين زوجي وبين ابني .

 

قالت: فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح فما أزال أبكى حتى أمسى سنة أو قريباً منها ، حتى مر بي رجل من بنى عمى، أحد بنى المغيرة، فرأى ما بي فرحمني فقال لبنى المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة ! فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها ! قالت: فقالوا لي : إلحقى بزوجك إن شئت، قالت: ورد بنو عبد الأسد إلى عند ذلك ابني .

 

قالت : فارتحلت بعيري ، ثم أخذت ابني فوضعته في حجري ، ثم خرجت إلى زوجي بالمدينة ، قالت : وما معي أحد من خلق الله ، قالت : فقلت : أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي ، حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بنى عبد الدار فقال لي : إلى أين يا بنت أب أمية ؟ قالت : فقلت أريد زوجي بالمدينة ، قال : أو ما معك أحد ؟ قالت : فقلت : لا والله ، إلا الله وبنى هذا . قال : والله ما لك من مترك ، فأخذ بخطام البعير فانطلق معي يهوى بي فوا الله ما صحبت رجلاً من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه ، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي ثم استأخر عنى ، حتى إذا نزلت استأخر ببعيري فحط عنه ثم قيده في الشجرة ، ثم تنحى عنى إلى شجرة فاضجع تحتها ، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله ، ثم استأخر عنى ، وقال اركبي ، فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه فقاده ، حتى ينزل بي ، فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمنى المدينة فلما نظر إلى قرية بنى عمرو بن عوف بقباء ، قال زوجك في هذه القرية - وكان أبو سلمة نازلاً فيها - فادخليها على بركة الله ، ثم انصرف راجعاً إلى مكة .

 

قال : فكانت تقول : والله ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبى سلمة ، وما رأيت صاحباً قط كان أكرم من عثمان بن طلحة .

 

في هذا الخبر مثل من قساوة المشركين وفظاظتهم ، حتى لا يردعهم عن الظلم رادع إلا خوف محاسبة الناس في الدنيا وانتقامهم، وقد أمنوا حساب الدنيا في معاملتهم لهذه المرأة المسكينة ، وهم لا يؤمنون بحساب الآخرة الذي لا يفرق بين قوى وضعيف وشريف ووضيع لأنهم لا يؤمنون بالآخرة .

 

وهذه امرأة ضحت بالأهل والأقارب والأحباب لتصل إلى زوجها المهاجر بعد أن أدركت الرحمة أحد أقارب أم سلمة رضى الله عنها فطالب بإنصافها بدافع من القرابة ، ونجت من يد الأعداء ، ولكن كيف لها أن تسافر ذلك السفر الطويل وحدها ؟ وهنا يقيض الله تعالى لها عثمان بن طلحة العبدرى رضى الله عنه الذي أبت شهامته أن يتركها تسافر وحدها فصحبها طول الطريق وقام بشئونها خير قيام .

 

وإن ظهور هذا السيد الشهم لها واستعداده للسفر معها وهي على أبواب مغادرة مكة دليل واضح على عناية الله تعالى بأوليائه وتسخيره لهم ، فهو جل وعلا الذي سخر قلب ذلك الرجل للعناية بها وبذل الجهد و الوقت من أجلها .

 

ومما ينبغي أن يلاحظ أن عثمان ابن طلحة لم يكن آنذاك مسلماً ، ومع ذلك قدم هذه الخدمة الجليلة لامرأة كانت على دين أعدائه ، وهذا مثل مما كان العرب يتصفون به من مكارم الأخلاق ، وخاصة قبيلة قريش التي اختارها الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم منها .

 

- هجرة عمر بن الخطاب وقصته مع عياش :

 

قال ابن اسحاق : ((ثم خرج عمر بن الخطاب وعياش بن أبى ربيعة المخزومى حتى قدما المدينة فحدثني نافع مولى عبد الله بن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب قال : اتَّعدت لما أردنا الهجرة إلى المدينة أنا وعياش بن أبى ربيعة وهشام بن العاصي بن وائل السهمي التناضب من أضاة بنى غفار فوق سرف وقلنا : أينا لم يصبح عندها فقد حبس فليمض صاحباه قال : فأصبحت أنا وعياش بن أبى ربيعة عند التناضب وحبس عنا هشام وفتن فافتتن .

 

فلما قدمنا المدينة نزلنا في بنى عمرو بن عوف بقباء وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش بن أبى ربيعة وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما حتى قدما علينا المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فكلماه وقالا له : إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط حتى تراك ولا تستظل من شمس حتى تراك فرق لها )).

 

وهكذا ندرك كيف يبذل دعاة الضلالة من وقتهم وجهدهم وأموالهم في سبيل نصرة باطلهم ومحاولة إخماد دعوة الحق حيث خرج أبو جهل وأخوه من مكة إلى المدينة وتحملا عناء السفر من أجل محاولة فتنة فرد واحد عن دينه أفلا يتحمل المسلمون مثل هذا الجهد أو أفضل منه من أجل دعوة الناس إلى الرشد واتباع الحق ؟!

 

لقد حاول أبو جهل أن يدخل على عياش من الجانب المؤثر عليه حيث ذكر وضع أمه ليكسب موافقته على العودة وهو يعلم أن عياشا من أهل البر والصلة .

 

وهذا مشهد يبين لنا صورة من مخططات أعداء الإسلام التي يحاولون بها صرف المسلمين عن التمسك بدينهم .

 

((قال عمر رضى الله عنه في سياق روايته : فقلت له : ياعياش إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم فوا الله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت )).

 

وهكذا كان عمر رضى الله عنه فطنا مدركا لمكائد الكفار فقد تفرس في وجوه القوم فعرف فيهم الغدر والمكيدة مع ما اشتهر عن أبى جهل قبل ذلك من عداء المسلمين .

 

وهكذا ينبغي لكل مسلم أن يكون حذرا من الكفار حتى ولو كانوا أهله وعشيرته وإن أظهروا النوايا الحسنة وأن يغلب جانب إساءة الظن بهم وأن لا يضع ثقته بهم لأن الأصل فيهم أنهم لا يراعون في مسلم عهداً ولا ذمه لشدة حقدهم على الإسلام والمسلمين كما قال الله تعالى {لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة } التوبة 1. أي لا يراعون حرمة القرابة ولا الجوار ولا العهد .

 

((قال : فقال يعنى عياش أبر قسم أمي ولى هناك مال فآخذه )) وهنا وقع عياش في شباك عاطفة القرابة ولم يثنيه تحذير القرآن من هذا الأمر كما ذكرنا فاستطاع عدو الإسلام أبو جهل أن يخدع عياشا وأن يستميله للموافقة على العودة إلى مكة .

 

((قال أي عمر : فقلت والله إنك لتعلم أنى لمن أكثر قريش مالاً فلك نصف مالي ولا تذهب معهما قال فأبى علىّ إلا أن يخرج معهما فلما أبى إلا ذلك قال : قلت له : أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول فالزم ظهرها فإن رابك من القوم ريب فانج عليها )).

 

وهذه تضحية كبيرة من عمر حيث تنازل لعياش عن نصف ماله وهو صاحب المال الكثير في مقابل حمايته من الفتنة في الدين وإن بذل المال في سبيل الخير دليل على قوة الإيمان ووضوح الهدف الإسلامي العالي ألا وهو ابتغاء رضوان الله تعالى والدار الآخرة وذلك لأن المال من أعز المحبوبات لدى الإنسان فإذا جاد به من أجل الله تعالى فهو من أهل الإيمان الراسخ كما سنرى في التضحية بالمال .

 

((قال عمر : فخرج عليها يعنى على ناقة عمر معهما حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل : يا ابن أخي والله لقد استغلظ علىّ بعيري هذا أفلا تعقبني على ناقتك هذه ؟ قال : بلى قال : فأناخ وأناخا ليتحول عليها فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه رباطا ثم دخلا به مكة وفتناه فافتتن .

 

قال ابن إسحاق : فحدثني به بعض آل عياش بن أبى ربيعة : أنهما حين دخلا به مكة دخلا به نهاراً موثقا ثم قالا : يا أهل مكة هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفيهنا هذا )) .

 

وهكذا تحقق ظن عمر بأبي جهل وأمثاله ووقع عياش في مكائد المشركين لأنه وضع ثقته بهم ولم يغلب جانب الحذر منهم .

 

وفي ذلك عبرة للمسلمين حتى لا يأمنوا الكفار وإن أظهروا لهم المودة وقدموا لهم المعونة فإن ذلك نوع من الطعم الذي يصطادون به المسلمين كما قال الله تعالى { يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون } التوبة 8] .

 

وفي المشهد المؤلم الذي دخل فيه عياش مكة موثقاً ووصفه بالسفاهة إمعان من أبى جهل في إذلال المسلمين وتحطيم معنوياتهم فكيف يثق المسلمون بالكفار وهم لا يريدون بهم إلا الشر ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم .

 

ومما ينبغي الإشارة إليه أن أخا أبى جهل الحارث بن هشام قد أسلم بعد فتح مكة وحسن إسلامه وكان له في الجهاد بلاء كبير .

 

قال ابن إسحاق : وحدثني نافع عن عبد الله بن عمر عن عمر في حديثه قال : فكنا نقول : ما الله بقابل ممن افتتن صرفاً ولا عدلاً ولا توبة قوم عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم ! قال : وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله تعالى فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون } الزمر 53- 55 ] .

 

قال عمر بن الخطاب فكتبتها بيدي في صحيفة وبعثت بها إلى هشام بن العاصي قال : فقال هشام بن العاصي : فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى أصعد بها فيه وأصوب ولا أفهمها حتى قلت : اللهم فهمنيها قال فألقى الله تعالى في قلبي أنها إنما أنزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا ويقال فينا قال : فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة .

 

وذكر الحافظ الهيثمى نحو هذا الخبر وقال : رواه البزار ورجاله ثقات وهكذا كانوا يهاجرون تاركين البلاد والعباد ابتغاء مرضاة الله . وهكذا كانوا يظنون أن من فتنه الكفار فافتتن ورضى بالعيش معهم أن الله تعالى لا يقبل منه توبة حتى نزلت هذه الآيات ففرح بها عمر رضى الله عنه وقد كان في هم وأسف على إخوانه الذين استجابوا لفتنة فبادر بكتابة هذه الآيات إلى هشام بن العاصي .

 

وقد كان هشام وأمثاله في حالة يأس وقنوط من رحمة الله تعالى لظنهم بأن من كان في مثل حالهم لا توبة له فلما أخذ الصحيفة التي كتبها عمر وقرأ الآيات أصبح في حيرة من أمره إذ أنه لم يكن يتصور أن رحمة الله تعالى تتسع لأمثاله فسأل الله تعالى أن يفهمه المقصود من الآية وإن كان يفهم معناها فألهمه الله سبحانه أنه وأمثاله هم المقصودون بها فتاب إلى الله تعالى وعزم على الهجرة .

 

قصة زيد بن حارثة مع أسرته :

 

أخرج الحاكم رحمه الله بإسناده عن أسامة بن زيد بن حارثة رضى الله عنه قال : كان حارثة بن شراحبيل تزوج امرأة في طىء من نبهان فأولدها جبلة وأسماء وزيداً فتوفيت واختلفت أولادها في حجر جدهم لأبيهم وأراد حارثة حملهم فأتى جدهم فقال ما عندنا فهو خير لهم فتراضوا إلى أن حمل جبلة وأسماء وخلف زيداً .

 

وجاءت خيل من تهامة من بنى فزارة فأغارت على طىء فسبت زيداً فصيروه إلى سوق عكاظ فرآه النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أن يبعث فقال لخديجة رضى الله عنها : يا خديجة رأيت في السوق غلاماً من صفته كيت وكيت : يصف عقلاً وأدباً وجمالاً لو أن لي مالاً لاشتريته فأمرت ورقة بن نوفل فاشتراه من مالها فقال: يا خديجة هبي لي هذا الغلام بطيب من نفسك فقالت : يا محمد أرى غلاماً وضيئاً وأخاف أن تبيعه أو تهبه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا موفقة ما أردت إلا لأتبناه فقالت : نعم يا محمد فرباه وتبناه فكان يقال له زيد بن محمد .

 

فجاء رجل من الحي فنظر إلى زيد فعرفه فقال : أنت زيد بن حارثة قال : لا أنا زيد بن محمد قال : لا بل أنت زيد بن حارثة من صفة أبيك وعمومتك وأخوالك كيت وكيت قد أتعبوا الأبدان وأنفقوا الأموال في سبيلك فقال زيد :

 

أحن إلى قومي وإن كنت نائياً

 

فإني قطين البيت عند المشاعر

وكفوا من الوجه الذي قد شجاكم

 

ولا تعملوا في الأرض فعل الأباعر

فإني محمد الله في خير أسرة

 

خيار معد كابراً بعد كابر

فقال حارثة لما وصل إليه :

 

بكيت على زيد ولم أدر ما فعل

 

أحي فيرجى أم أتى دونه الأجل

فوا الله ما أدرى وإني لسائل

 

أغالك سهل الأرض أم غالك الجبل

فيا ليت شعري هل الدهر رجعه

 

فحسبي من الدنيا رجوعك لي بجل

تذكرنيه الشمس عند طلوعها

 

ويعرض لي ذكراه إذا عسعس الطفل

وإذا هبت الأرواح هيجن ذكره

 

فيا طول أحزاني عليه ويا وجل

سأعمل نص العيس في الأرض جاهداً

 

ولا أسأم التطواف أو تسأم الإبل

فيأتي أو تأتى علىّ منيتي

 

وكل امرئ فان غره الأمل

فقدم حارثة بن شراحيل إلى مكة في إخواته وأهل بيته فأتى النبي صلى الله عليه وسلم في فناء الكعبة فينفر من أصحابه فيهم زيد بن حارثة فلما نظروا إلى زيد عرفوه وعرفهم ولم يقم إليهم إجلالً لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

 

فقالوا له : يا زيد فلم يجبهم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : من هؤلاء يا زيد ؟ قال : يا رسول الله هذا أبى وهذا عمى وهذا أخي وهؤلاء عشيرتي .

 

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : قم فسلم عليهم يا زيد فقام فسلم عليهم وسلموا عليه ثم قالوا له : امض معنا يا زيد .

 

فقال : ما أريد برسول الله صلى الله عليه وسلم بدلاً ولا غيره أحداً فقالوا : يا محمد إنا معطوك بهذا الغلام ديات فسم ما شئت فإنا حاملوه إليك .

 

فقال : أسألكم أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وأنى خاتم أنبيائه ورسله وأرسله معكم فتأبوا وتلكئوا وتلجلجوا فقالوا : تقبل منا ما عرضنا عليك من الدنانير ؟ فقال لهم : ها هنا خصلة غير هذه قد جعلت الأمر إليه فإن شاء فليقم وإن شاء فليرحل .

 

قالوا : ما بقى شئ قالوا : يا زيد قد أذن لك الآن محمد فانطلق معنا قال : هيهات هيهات ما أريد برسول الله صلى الله عليه وسلم بدلاً ولا أوثر عليه والداً ولا ولداً فأداروه وألاصوه واستعطفوه وأخبروه من وراءه من وجدهم فأبى وحلف أن لا يلحقهم .

 

قال حارثة : أما أنا فأواسيك بنفسي أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله وأبى الباقون .

 

وأخرج الحاكم أيضاً من طريق أبى عمرو الشيبانى : حدثني جبلة بن حارثة أخو زيد ابن حارثة قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ابعث معي أخي زيداً فقال هو ذا هو إن أراد لم أمنعه فقال زيد : لا والله لا أختار عليك أحداً قال جبلة : إن رأى أخي أفضل من رأيي .

 

وقال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه وهو شاهد للحديث الماضي وأٌره الذهبي .

 

في هذا الخبر موافق : الأول في اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الإسلام حيث اغتنم فرصة قدوم عشيرة زيد بن حارثة رضى الله عنه ليدعوهم إلى الإسلام خاصة وانهم في فرحة غامرة بلقاء ابنهم وفي شوق بالغ لرجوعه معهم فلم يطلب من زيد مالاً وإنما جعل مقابل سماحه بالعودة معهم أن يدخلوا في الإسلام .

 

والموقف الثاني : في تعففه صلى الله عليه وسلم وترفعه عن الأموال التي حكموه في عددها في مقابل تخليه عن زيد فلما فات ما قصده من إسلامهم جعل الجيار إلى زيد نفسه ففرحوا بذلك واعتبروه غاية التكرم والتفضل .

 

والموقف الثالث : في تعلق زيد بن حارثة برسول الله صلى الله عليه وسلم وحبه الشديد له الذي فاق حب والده وعشيرته حيث رفض الذهاب معهم رغم إلحاحهم الشديد ويترتب على ذلك إيثار الحب في الله تعالى على جميع العلاقات الدنيوية التي أبرزها حب القرابة .

 

لقد كان في شعور زيد كأي إنسان ميل فطرى إلى الأهل والعشيرة والوطن الذي درج فيه وهو في صباه ولقد كان في إمكانه أن يذهب مع أسرته ويبقى على إسلامه ولكن بحبه للنبي صلى الله عليه وسلم قد ملأ قلبه حتى أصبح حبه لأبيه وأسرته لا يساوى شيئاً عند المقارنة بحبه لسيده ورسوله صلى الله عليه وسلم لذلك قال : هيهات هيهات ما أريد برسول الله صلى الله عليه وسلم بدلا ولا أوثر عليه والدا ولا ولد فكان مصمما في قراره على البقاء في مكة من اللحظة الأولى التي عرض عليه فيها أبوه العودة إلى بلده ولم يحصل منه أي تردد في هذا الأمر .

 

وهكذا تبنى العلاقات في الإسلام على أساس العقيدة وليست على أساس الدم .

أضف تعليقك