بقلم: أحمد مولانا
أحببت في طفولتي المبكرة كرة القدم، فبحلول العام 1990 كانت جدران غرفتي تمتلئ بصور مشاهير اللاعبين، بدءا من نجوم إيطاليا فيالي وباريزي ومالديني، مرورا بنجوم هولندا فان باستن وخولييت وريكاردو، وصولا للكاميروني ميلا.
أما الدوري المحلي المصري، فكنت أتابع مبارياته عبر التلفاز، أو إذاعة (الشباب والرياضة) ثم مع تمكني من إجادة القراءة، صرت أشتري أسبوعيا مجلة الأهرام الرياضي، وأسجل دوريا نتائج المباريات في جدول أحتفظ به، وفي نهاية الموسم الكروي أقوم بعمل إحصاء يشمل نقاط كل فريق، والأهداف التي سجلها كل فريق أو دخلت في مرماه، ثم أقارن هذا الإحصاء ببعض الإحصاءات التي تنشرها الصحف في الركن المخصص للرياضة. وفضلا عن ذلك خصصت آنذاك ألبوما للصور التي تجمعني ببعض اللاعبين، أو الصور التي حصلت عليها كإهداء منهم.
ظللت على هذا الحال سنوات، أشجع خلالها أحد فرق الأقاليم، أفرح لانتصاراته، وأحزن وربما أبكي لهزيمته، إلى أن قام اتحاد الكرة بتغيير قواعد اللعبة، وإقرار قانون الاحتراف، فصار الفريق الفائز يكتسب 3 نقاط بدلا من نقطتين، وخلال مدة وجيزة اشترت الأندية الكبيرة أفضل اللاعبين من نوادي الأقاليم، ومن ثم انخفضت حدة المنافسة الكروية، وصارت محصورة بين الأندية الغنية، فزهدت في متابعة الدوري المصري، واكتفيت بمشاهدة ما يذيعه التلفزيون من البطولات الأوروبية وكأس العالم.
التحولات القدرية
حدثت فجأة تحولات في اهتماماتي بشكل قدري عجيب، فبينما كنت أشاهد التلفاز في نهاية فبراير ومطلع مارس 1996 إذا بي أجد خلال أيام معدودة قطعا متكررا للإرسال من أجل إذاعة خبر عاجل، يتحدث عن عمليات (بلغ عددها 4 عمليات خلفت 60 قتيلا إسرائيليا) نفذتها عناصر من حركة فلسطينية تُسمى حماس ثأرا من اغتيال إسرائيل لشخص يُدعى يحيى عياش، بالتوازي مع إدانة السلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس ياسر عرفات لتلك العمليات، وتعهده بالقبض على المسؤولين عنها، ثم سرعان ما تم عقد مؤتمر لمكافحة الارهاب بشرم الشيخ حضره العشرات من زعماء دول العالم على رأسهم الرئيسان الأميركي كلينتون والروسي يلتسين. ولم أفهم لماذا السلطة الفلسطينية في خصومة مع حماس التي تحارب إسرائيل!
لم تمر سوى أيام معدودة إلا وشنت إسرائيل في إبريل 1996 عملية ضخمة في لبنان ضد حزب الله تحت اسم "عناقيد الغضب". وقعت خلالها مجزرة قانا، وشاهدت في التلفاز كيف أن ما يُسمى بجيش لبنان الجنوبي بقيادة أنطوان لحد يقاتل في صف إسرائيل، ولم أفهم آنذاك ما سبب ذلك! وفي نفس التوقيت في إبريل 1996 شن عناصر من الجماعة الإسلامية المصرية هجوما دمويا على فوج سياحي يوناني أمام فندق أوروبا بالهرم، سقط فيه 18 قتيلا من السياح، ولم أفهم ما المقصود بالجماعة الإسلامية، ولماذا تنفذ هكذا هجمات!
عندئذ قررت أن أسعى للتعرف على ما يدور حولي من أحداث، ولم يكن أمامي سوى التلفزيون المصري بنشراته العقيمة الشهيرة في السادسة والتاسعة مساء كل يوم، فنفرت منه ومن الصحف الحكومية التي لا تتحدث سوى عن حكمة الرئيس مبارك البالغة وانجازاته وزياراته التي يتابعها ويشيد بها الإعلام العالمي. ثم ذات يوم وقع بصري عند بائع الصحف على جريدة الشعب الصادرة عن حزب العمل، فانبهرت بعناوينها ومضمونها، وقد كنت سابقا أكره هذه الجريدة التي لم أكن أجد فيها أخبارا تُذكر عن كرة القدم، لكن الآن وجدت فيها تغطيات واسعة للأحداث في فلسطين ولبنان، وتعاطفا قويا مع حركات المقاومة في العالم العربي، وكشفا للفساد داخل مصر، فأدمنت قراءة مقالات عادل حسين، ومجدي أحمد حسين، ومحمد عباس، وعامر عبد المنعم، وطلعت رميح.
وحينئذ زهدت تماما في متابعة كرة القدم، وحلت جداول عمليات حزب الله في لبنان محل جداول مباريات كرة القدم، فصرت أسجل فيها عدد عمليات الحزب خلال السنة، وخسائر الإسرائيليين، كما صرت أتابع قناة المنار خلال الفترة الصيفية التي يتاح خلالها التقاط بث القنوات الفضائية اللبنانية.
ثم أشار علي بعض الأقرباء عندما أبديت لهم تبرمي من عقم الإعلام المصري، بأن استمع إلى إذاعات لندن ومونت كارلو وصوت إسرائيل، وبالفعل صرت استمع لهم يوميا، وبالأخص لبرنامج السياسة بين السائل والمجيب وجولات الأخبار في البي بي سي، ثم خطوت خطوة أخرى إثر سماعي إعلانات دورية في إذاعة مونت كارلو عن مجلة الحوادث اللبنانية الأسبوعية، فصرت اشتريها دوريا، وكانت تضم آنذاك نخبة من الإعلاميين العرب مثل وليد العمري مدير مكتب الجزيرة حاليا في فلسطين المحتلة، وعبر صفحات مجلة الحوادث وجريدة الشعب قرأت عن أفغانستان والبوسنة والصومال وحصار العراق وظاهرة الجهاديين العرب، ثم سرعان ما اندلعت حرب الشيشان لأتابعها بشكل حثيث.
ثم حدثت قفزة للأمام عندما اشترى الوالد طبق بث فضائي، وشاهدت عليه قناة الجزيرة لأول مرة عام 1998، وكانت وقتها تبث بشكل جزئي لبضعة ساعات فقط في اليوم، ولكنها كانت الأفضل، فعلى شاشتها شاهدت برامج ولقاءات عن قضايا الساعة بسقف حرية مرتفع، فتخليت عن الاستماع للراديو، ولم يكن النت دخل مدينتي آنذاك، وهو ما حدث لاحقا عام 2000.
تلاحقت الأحداث ومرت السنوات، وشاركت في العديد من الأحداث العامة سواء ميدانيا أو عبر الإعلام أو بإصدار الكتب والدراسات. ولكن تظل أحداث العام 1996 في الذاكرة لا تنمحي، إذ غيرت من اهتماماتي، فلم أعد أفرح أو أحزن لخسارة هذا الفريق أو ذاك، إنما صرت أهتم بقضايا الأمة المسلمة، ومن ثم أدركت لاحقا الهدف الذي خلقنا الله من أجله، ألا وهو تحقيق العبودية له سبحانه وتعالى، وإعلاء راية الحق، ونصرة المستضعفين، والبغض والعداء للطغاة والمتكبرين.
أضف تعليقك