• الصلاة القادمة

    العصر 13:46

 
news Image
منذ ثانيتين

يتميز منهج الإمام البنا بالوضوح والدقة سواء في جانبه التأصيلي النظري أو فيما ينتج عنه من ممارسات وتنفيذ ، ومن القضايا التي ظهرت بوضوح فى كتاباته وتجلت فى ممارساته ؛ (قضية القوة)، حقيقتها، ومراتبها، ومتى تستخدم، وضوابط هذا الاستخدام .

ومن سعة أفقه، وشمول فقهه أن طرحها شاملة غير مختزلة، حتى لا يحصرها أصحاب الرؤية الضيقة فى مجال واحد، كما طرحها متدرجة ومرتبة ومتتالية يؤدي أولها إلى آخرها دون تعسف أو تجاوز ، تعاقب يجعل مراتبها الأولى أساس ومنطلق لما يليها من مراتب ، لذلك نراه يبدأ مراتب القوة فى الفرد والجماعة (بقوة العقيدة) والتى هي أساس لكل قوة ومنطلق صحيح لكل حركة .

ثم نراه يتبعها (بقوة الأخوة) أو رابطة الوحدة والتماسك القلبي والترابط العضوي ، وهي قوة معنوية تنبثق من قوة العقيدة ، وثمرة من ثماراتها، وقد عبر عنها حين قال بشكل واضح : ” أيها الإخوان : أخوتكم سر قوتكم” .

وبعد هاتين القوتين المعنويتين تأتى القوة المادية (قوة الساعد والسلاح) حين لاُيُجدى غيرها ، وهي المرتبة التى يظن البعض أنها مجال القوة الوحيد والأولى . لم يغفلها الإمام البنا، فقد ذكرها كمرتبة من مراتب القوة التى يحتاج إليها الصف المسلم العامل المجاهد، ولكنه ذكرها فى موضعها الصحيح ومرتبتها الطبيعية ، هكذا كان فقهه ووعيه رحمه الله تعالى . 

وبالإيمان العميق والتكوين الدقيق والعمل المتواصل، والثبات على طريق الحق دون قعود أو انحراف يصل الصف إلى مستوى القوة المطلوب له، والذي يتمثل أساساً في :

1- قوة العقيدة بكل شمولها.

2- قوة الوحدة للصف والتنظيم بكل أبعادها.

3- قوة الساعد في عدد السواعد ذات الكفاءة والتأهيل العلمى وفى قدرتها على الجهاد والإعداد له.

ولابد أولاً أن يتحقق المستوى المكافئ المطلوب من قوة العقيدة، وقوة الرابطة والوحدة..

وأن يشمل ذلك الصف باتساعه وبأعداده المكافئة للواقع..

لابد من ذلك أولاً قبل أن يقدم الصف على مرحلة التنفيذ والجهاد والمواجهة.

إن صلابة هذا الصف وقوته تتحقق بالأخوة والرابطة بين أفراده، والتفافهم حول قيادتهم وبالثقة التي تشيع بينهم، وبالشورى كمنهج يتربون عليه في صفهم.. مما يجعلهم يستعصون على كل محاولات الاختراق أو التفتيت من الداخل.

يقول الإمام الشهيد: « ووحدتكم أيها الإخوان وارتباطكم هو السلاح الأول وهو أقوى الأسلحة في أيديكم، فاحرصوا على هذه الوحدة، وكونوا دائما مع الجماعة.. ولا تخالفوا عن أمر إخوانكم، ولا تفرقن بينكم المشاغل الزائلة ولا الأوهام القاتلة »

من مقال الإمام بعنوان: (نصيحة من البنا إلى الإخوان) ـ أعيد نشره في مجلة الدعوة العدد (82) شوال 1419- يناير وفبراير 1999 م.

ويقول أيضاً : « وتحابوا فيما بينكم واحرصوا كل الحرص على رابطتكم فهي سر قوتكم وعماد نجاحكم. واثبتوا حتى يفتح الله بينكم وبين قومكم بالحق وهو خير الفاتحين. واسمعوا وأطيعوا لقيادتكم في العسر واليسر والمنشط والمكره، فهي رمز فكرتكم وحلقة الاتصال فيما بينكم » رسالة : بين الأمس واليوم، ص164.

وإن استعجال المعركة أو دخول المواجهة الكاملة دون هذا الإعداد التربوى، والتمحيص الدعوى، والانتشار المتوازن المطلوب، هو خروج على الضوابط الصحيحة، ولا يأتى من ورائه إلا الهزيمة أو التفتت والاضطراب.

يقول الإمام الشهيد: « وقبل القوة المادية، أهم منها وألزم: القوة الروحية من: الخلق الفاضل، والإيمان بالحقوق ومعرفتها، والإرادة الماضية، والتضحية في سبيل الواجب، والوفاء الذي تبنى عليه الثقة والوحدة، وعنهما تكون الوحدة… لهذا نحن دائبون على تطهير أرواحنا… وتقوية نفوسنا.. وتقويم أخلاقنا.. وندعو ونجاهد بدعوتنا لهذا.. ونطالب أمتنا بإصلاح النفوس وتقويم الأخلاق مستمدين ذلك من كتاب الله: ” إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم “ [ الرعد: 11 ] » رسالة : إلى أى شيء ندعو الناس؟

ترتيب الصف والعلاقة بين وحداته:

ولا يقف الأمر عند مجرد تكوين الركائز وكسب الأنصار، بل لابد من ترتيب الصف وتنظيم الدعوة.. « فلا دعوة بغير قيادة..»

ووضع اللوائح والضوابط التي تضبط ذلك، ومع انتشار الهيئات والركائز الإخوانية في البلاد والقرى تتحدد الصلة بينها كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً.

يقول الإمام: « والصلة بين هذه الهيئات كلها ليس مجرد التشابه في الاسم أو الوحدة في المقصد العام. كلا بل إنها أقوى الصلات جميعاً. إنها صلة الحب العميق والتعاون الوثيق والارتباط القدسى المتين والالتفاف التام حول محور الدعوة في مركزها، والوحدة الشاملة في الألم والأمل والجهاد والعمل، والوسائل والغايات، والمناهج والخطوات..» رسالة : المؤتمر الخامس ص132 .

هذا الارتباط بالقيادة لكل وحدات الجماعة وكذلك فيما بينها، يؤكد على الحقيقة التربوية في أن الإخوان في الدعوة يسمعون لقيادتهم ولإخوانهم بقلوبهم قبل أن يسمعوا بآذانهم.

ويشير الإمام الشهيد إلى جانب من مهمة هذه الهيئات والشعب:

« أن تجد وتعمل في مناحى الخدمة العامة، وأن تكون دائمة النشاط جمة الإنتاج ».

« وليست مقتصرة في عملها على تنفيذ تعليمات المكتب الرئيسى لها بالقاهرة ».

« كما أن صلة المكتب بفروعه وهيئاته ليست صلة الرئيس بالمرؤوس، وليست صلة الإدارة البحتة والإشراف العملى فقط، ولكنها صلة فوق ذلك كله: صلة الروح أولاً، وصلة أفراد الأسرة الواحدة بعضهم ببعض، والتزاور في الله، فدعاة الإخوان يزورون إخوانهم ويختلطون بهم ويعرفون أهم ما يتصل بحياتهم وشؤونهم الخاصة والعامة » رسالة : المؤتمر الخامس.

استمرار التربية:

ولا يعنى هذا أن التكوين والتربية لتحقيق قوة العقيدة، وقوة الوحدة وإصلاح النفس وتربيتها على المنهج القويم، تقف أو تنتهى أو تضعف بعد مرحلة التمكين، بل إنها ضرورية ومستمرة بعد ذلك إلى أن تحقق الجماعة أهدافها السبعة وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وهذا التكوين مستمر طوال مسيرة الجماعة وحياة الأفراد، ويكون في ازدياد يكافئ نمو الواقع وأعبائه.. ولنعلم أن المحن أيضاً تسير معها متوازية طوال حياتها، تهز الصف من الداخل، وتصهر النفوس وترسخ الإيمان.

ومع اتساع ساحة الأعمال التنفيذية وتصاعدها حتى تصل إلى المواجهات الجزئية قد تكشف الأحداث عن بعض الضعف أو القصور التربوى في بعض الأفراد أو بعض المسؤولين مما لم يكن ظاهراً قبل ذلك، فهذا أمر طبعى ؛ إذ إن الحركة بضغوطها المختلفة هي ميدان التمحيص والإظهار والفرز .

وهذا يقتضى المراجعة المستمرة لحال الأفراد والمزيد من التركيز التربوى والإعداد والتكوين وعدم الاستعجال في الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أو تسرع بدخول ميدان المواجهة.. يراعى ذلك مع استمرار التوازن بينهم وبين مساحة الحركة والنشاط وعدم إخراج الجماعة من ساحة التأثير وميدان العمل.

وقد أشار الإمام الشهيد إلى ذلك – عندما ظهر بعض الخلل التربوى في بعض المسؤولين عندما تصاعدت وتيرة الحركة والمواجهة: « لو استقبلت من أمرى ما استدبرت لعدت بالدعوة إلى سابق عهدها، مزيد من التربية والتكوين وعهد المأثورات ».

وبمقدار الجهد الذي يبذله الأفراد في أخذ أنفسهم بشرائع الإسلام والتربية والتكوين، وإعداد الركائز ونشر الدعوة، بمقدار ما يقصرون ويطوون الزمن. لكن ليعلموا جيداً أن الطريق طويل يحتاج إلى أجيال، وأن عظم الأهداف يحتاج إلى متانة وقوة الأساس والإعداد حتى يقوم البناء ثابتاً متكاملاً.

وقد تأتى فترات مباركة بأمر الله، يتزايد فيها الإقبال على دعوة الله، ويتسارع معدل تكوين الركائز وانتشارها، وكذلك تأتى فرص سانحة للمتيقظ المستعد ليستفيد منها، لكن تبقى الموازين كما هي مرهونة بمستوى التكوين والتربية.

 

أضف تعليقك