• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم: د. سيف الدين عبد الفتاح

في مفتتح هذا المقال، لا بد أن نشير إلى كلمات مهمة كان يلقيها علينا أستاذنا المرحوم العلامة الدكتور حامد ربيع، حينما يؤكد على "الوظيفة الكفاحية لعالم السياسة". إن العالم السياسي إذا لم يحسن الانتماء لأمته وقضاياها وهمومها، فإنه يعيش على هامش المجتمع، لا يقوم بوظيفة حقيقية. لكنه في المقابل ربما قد يخون وظيفته التأسيسية، إذ تكون عينه على السلطة لا على المجتمع والجماهير وعموم الناس الذين في الحقيقة يشكلون ملح الأرض ولحمة السياسة، ذلك أن تلك الوظيفة الكفاحية لعلم السياسة إنما تشكل بحق مجالا لأن تكون نخبة العلماء في هذا المقام، بحيث تحدث تقدما ونهوضا في الوعي والسعي لدى الجماهير في عمليات التغيير والتأثير.

وأتذكر هنا آخر رسالة أرسلها لي أستاذنا الدكتور حامد ربيع، حينما كان يراجع دوره وقد أحس بدنو أجله، فيقول: "يا بنيّ ربما قصرنا كثيرا في حق تلك الجماهير، وربما نحن كنخب لم نهتم بتلك الجماهير ذلك الاهتمام الكافي بالعمل الوافي. لم يكن ذلك الاهتمام مناسبا، رغم أن بعض التركيز في هذا المجال حتى لو كان قليلا أو بسيطا؛ يسهم في التقدم ولو مترا واحدا صوب التغيير الحقيقي والواعي".

هذه العبارات الذهبية إنما تشكل جوهر عالم السياسة وجوهر وظيفته وتأثيرها على مجرى التغيير العام وتمثيل إرادة الشعوب والوصول إلى نهوضها، وقدرتها على الفاعلية والتأثير في مصيرها ومصير أوطانها. وهنا قد يدخل علينا الباب الذي يتعلق بالثورات التي لم يحضرها أستاذنا، لكنه كان دائما يبشر بها ويؤكد على ضرورات التغيير الكبير، وكان دائم الانتقاد لكل هؤلاء العلماء الذين يسيرون في ركاب السلطة ويكونون رهن إشارتها ويتشوقون إلى مناصبها وإلى الجاه المتعلق بها، فيكونون للأسف الشديد ضمن جوقة المستبد وضمن أدوات بطشه الناعمة، يبررون ويسوغون له ما استبد أو أفسد.

بل إن هؤلاء للأسف الشديد إذا ما أراد المستبد أن يجعل من الدين أو التدين أحد خصومه، فإنهم يسهمون بإطلاق رصاصاتهم من المقالات ومن المداخلات في الفضائيات؛ على مجمل مساحات الدين والتدين. قد يتوافق ذلك مع رؤاهم العلمانية، وربما يتناسون كل معاني الليبرالية والديمقراطية والحرية، ولا يفعلون أو يقولون إلا ما يرضي المستبد وما يوافق هواه ويحقق رغباته في إطار قاعدة يتشوفونها: "أحلام سعادتك أوامر"، ويصير العالِم بدلا من أن يكون قاطرة للنهوض والتغيير يصير مقطورا للسلطة المستبدة يجعلها بوصلته ويتوجه إليها في مقصده وقبلته.

ما بال هؤلاء من علماء السياسة يتناسون باب العلاقات المدنية العسكرية الذي يؤثر بالضرورة على كل مسارات التحول الديمقراطي والقدرات والإمكانات التي تتعلق به ويقفون في جوار العسكر، متغافلين عن أن الدولة المدنية تكون في مواجهة تغول العسكر والدولة العسكرية أكثر مما تكون في مواجهة الدين والتدين. ومن المؤسف حقا أنهم يقايضون هذه السلطات العسكرية ويساومونها على حساب شعوبهم، أنهم يبيعون الشعوب لهذه السلطات العسكرية بأبخس الأثمان، ويتغافلون عن أدوارهم ويندمجون مع السلطة بعقلهم المعيشي والمصلحي.

الأمر لم يعد يقف عند حد مساندة العلماء للمستبد، بل إنهم بعد هذا الانقلاب الذي قطع الطريق على مسار ديمقراطي؛ لم يجرؤوا على وصفه بالانقلاب، فبدا لهم يزيفون الأمر ويسترون حقيقة الظواهر، بل ويتسترون على فساد بعضهم وانحرافهم وبطشهم، فأخرجوا طبعة جديدة لعلم السياسة وهي لا تستحق أن تكون فيه، بل هي أقرب ما تكون إلى علوم الاستبداد منها إلى علوم السياسة الراشدة، على ما يميز عبد الرحمن الكواكبي في كتابه الأشهر (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) بين علم الاستبداد وعلم السياسة. هذه الطبعة من العلم، وما هي بعلم، إنما تستحق اسم "العلوم السيسية". والعلوم السيسية في ذلك هي أوهن من بيت العنكبوت ولكنها تتجمع في خيوط وأركان:

الأول: عسكرة العلم، وهم في هذا يقدمون ديباجة تستحسن حكم العسكر وتجعله الأصل في الدول النامية، وتطلق على انقلاباتهم مسمى الثورات، وما هي إلا انقلابات متغلبة تحاول عسكرة الدولة والمجتمع، وتجعل كامل المساحات المجتمع والدولة والمجال المدني والمجال العام ومجال الأعمال والإعلام معسكرة بالكامل، فتتحول الدولة وكذلك المجتمع إلى معسكر كبير يقوم على قاعدتين؛ قاعدة الطاعة المطلقة وفق "قاعدة السادة والعبيد"، والثانية تتعلق بـ"غسيل المخ الجماعي" في ما أسموه بالأذرع الإعلامية والشؤون المعنوية.

الثاني: المتعلق بالفكر الدولتي الذي يرسم صورة للدولة على مقاسه ويحاول أن يشكلها على مزاجه، حتى لو هدم الدولة في حقيقتها وأضر بها في مقتل، من الاستيلاء على كل مؤسساتها ومصادرة وظائفها الحقيقية من جيش ومؤسسة عسكرية ومؤسسات أمنية تقوم على حفظ الأمن وإرساء قواعد الأمان والتأمين، والاستيلاء على مساحات وساحات القضاء وأحكامه، وعلى مقدرات الإعلام ومفرداته، والاستيلاء على التشريع والبرلمان؛ فيصطنعه على عينه مخابراتيا، ويقدم طبعة ممسوخة من مجالس النواب تأتمر بأمر المستبد وتتلمس رغباته، ولا تقوم برقابته أو بوظيفة تمثيلها لإرادة الشعب ومكونات الأمة، وتتحول عن بكرة أبيها إلى مؤسسة في ركاب السلطة لا تنفذ إلا رغبات المستبد والتعبير عنها، بل واستباقها.

الثالث: دولة طاعة القطيع والخرافة والفكاكة، فمن المؤسف حقا أنه يحاول أن يصيغ علاقة السلطة بالمجتمع في إطار قاعدة العبودية. ومن هنا كانت اختبارات جهاز الكفتة ومشروعاته القومية التي لم تكن في حقيقة أمرها إلا حالات فنكوشية لا أثر لها إلا أن تكون ترويجا لأوهام وبيعا للأحلام. وفي هذا المقام، سنجد مؤشرات ومشاهد كثيرة تؤكد على الطاعة العمياء حتى في غير المقبول والمعقول، وأصبح "الكفتولوجي" و"الفنكوش" نمطا حياة، لا يُقبل من كامل الشعب إلا أن يسير وراء العسكر من غير معقب ومن غير فهم.

الرابع: المتعلق بصناعة دولة الخوف ضمن استراتيجيات التخويف والترويع والتفزيع والتجويع. إذ يجعل من كل تلك المسالك في إطار قاعدة يبتكرها "أخف وأجع شعبك يتبعك"، وهو في هذا الإطار يتحرك صوب عقلية القطيع لا يرغب غيرها بديلا، فيصادر كل مسائل المقاومة أو المعارضة أو الاحتجاج والتعبير عن الرأي.

الخامس: أمر يتعلق بخيانة الوطنية ووطنية الخيانة، ذلك أنه في العلوم السيسية يحاول هؤلاء أن يجعلوا من أفعال وتصرفات هي في صميم الحنث بالقسم وخيانة الوطن والتفريط بأراضيه؛ أمرا يتعلق بالوطنية. كل ذلك يتعلق بانقلاب المفاهيم وخيانة معانيها وطمس مغازيها، ليتأكد أن المستبد المنقلب ينال من تلك المفاهيم التي تتعلق بأرض الوطن والأمن القومي، فيجعلها طوع بنانه يشكلها كما أراد وعلى هواه، ويطلق على خيانات واضحة ويضفي عليها - للأسف - معنى الوطنية، وهي عين الخيانة. إن أمر "تيران وصنافير" والتنازل عنهما ليس ببعيد، وأن التفريط في الموارد من مياه النيل وغاز مصر ما زال ماثلا في الأذهان، وأن اعتباره أمن إسرائيل هو من جملة أمن مصر القومي، من أجل سلامه الدافئ الزائف المزعوم، كل ذلك يشكل حالة متعينة من خيانة الأمانة وخيانة الوطن والتفريط في الأرض والعرض.

السادس: إنما يتعلق بالفصل الجديد الذي يضاف إلى العلوم السيسية، وهو فصل يتعلق بالبلطجة السيسية أسفرت عنه مشاهد الجنون الذي أصابه بعد أن تجرأ البعض على الترشح في مواجهته في انتخابات رئاسية قادمة. لكنه لا يحتمل هذا الأمر، ومن ثم استخدم كل بلطجته، من تحديد إقامة لمرشح اعتقال آخر، وحبس أخير لمدة ست سنوات، حتى من تكلم عن هذه الأوضاع لم يتورع عن التنكيل به ومصادرة أمواله. إن باب البلطجة الذي أضافه السيسي أمر غير مسبوق في العلوم السياسية، ولكنه أضافه في طبعة جديدة من العلوم السيسية.

نقول لكل أساتذة علم السياسة الذين درّسٌوا الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأكدوا على ضرورة مقاومة الاستبداد والسلطوية: أين أنتم؟! كيف تتجرأون على الدخول لقاعات الدرس لتخالفوا ضمائركم المهنية وجوهر وظيفتكم الأساسية فيما تحملون من واجبات حيال المجتمع والأمة؟ ما أنتم إلا شركاء في استبداده وتمررون طغيانه، وتكتبون صحائفكم السوداء من النفاق والتزوير والتبرير في كتاب العلوم السيسية. 

أضف تعليقك