• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم: نبيل الفولي

حين كان الجزائريون يجوبون شوارع باريس في خمسينيات القرن الماضي مساندةً لثورة بلادهم ضد الاستعمار الفرنسي؛ كان الفيلسوف الشهير جان بول سارتر يساندهم بلسانه وقلمه، ويتصدر المظاهرات معلنا رفضه لأي انتهاك يمارسه الإنسان ضد الإنسان، وداعيا لمغادرة الجيوش الفرنسية الجزائر، مطبقا بذلك أفكارَه التي قد نختلف مع منحاها العقدي، لكننا نقدر مدافعتها عن الإنسان وحريته.

كيف نفهم فرنسا؟
بالطبع لم يكن من اليسير على قوات الشرطة أن تتعامل بعنف مع مظاهرة يشارك فيها أكبر فيلسوف فرنسي وأحد كبار فلاسفة العالم حينئذ؛ فالتقى وزير الداخلية بالرئيس شارل ديغول يستأذنه في اعتقال سارتر بعض الوقت، فرد عليه ديغول بحسم قائلا: إن سارتر هو فرنسا، وسجنه يعني سَجن فرنسا!

كان سارتر وكوكبة من المفكرين والأدباء الفرنسيين حينها يكافحون من أجل قيم الحرية التي رفعتها فرنسا عاليا، ولكنها بنزعتها الاستعمارية العتيدة داستها بالأقدام، فملؤوا أجواء فرنسا بالمقالات والبيانات التي تناصر الحق الجزائري، وتناهض السلوك الاستعماري الوحشي لبلادهم.

وفي مقابل هذا التيار المدافع عن حق الجزائر في الحرية؛ وقف كثير من أنصار اليمين الفرنسي والحركة القومية المتحدة حينئذ في صف القهر وعدم التنازل عن الجزائر بأي ثمن، واتهموا الفريق الآخر بتحريض الجنود على العصيان، لكن هذا الفريق الآخر انتصر في النهاية بعد كفاح، وجلت القوات الفرنسية عن الجزائر عام 1962.

تحكي هذه الصفحة من التاريخ الفرنسي الحديث سيرة المجتمع والدولة في موضوع حقوق الشعوب والأفراد والتنازع الداخلي بشأنها طوال قرون، وبقدر ما بدت بعض الصفحات الفرنسية الأخرى مجيدة في الذود عن هذه الحقوق، بدت هي نفسها تقطر ظلما مُرًّا لبعض الناس وسط انقسام فرنسي في الرأي بشأن صحة المواقف والتهم وخطئها.

واليوم نشهد صفحة فرنسية مماثلة يتكرر معها حديث الماضي وشجونه بتقديم المفكر السويسري الجنسية المصري الأصل طارق رمضان للمحاكمة أمام محكمة في باريس، بتهمة اغتصاب ناشطة علمانية تفوح من ادعاءاتها رائحة الكيد، وتعكس جانبا مظلما من هذا المجتمع الأوروبي العريق.

ولا شك أن استيعاب المعادلة الفرنسية السابقة في قضية الحقوق مسألة مهمة لفهم قضية طارق رمضان، فالمجتمع فيه جانب حالك الظلام يدعم الظلم والكبت بل القتل والاغتيال بغوغائية وبدون تحقق (قبل الثورة الفرنسية وبعدها)، ولكن فيه كذلك أصحاب مبادئ يخوضون المعارك شرسة ضد الظلم، ويتمسكون بالمبادئ المحترمة بجسارة تدعو إلى التقدير والإعجاب، وترجح كفة الحقيقة في كثير من الأحيان.

وقبل أن نتناول موازين هذه المعادلة في قضية طارق رمضان خاصة، لابد من أن أضيف أمثلة أخرى من التاريخ الفرنسي الحديث تؤكد الرؤية السابقة للمجتمع الفرنسي وقضايا الحقوق فيه على العموم؛ أعني ما تعلق منها بالشعوب وما تعلق بالأفراد.

انتصار شرف القلم
في عام 1762 حكمت محكمة في تولوز بجنوب فرنسا بإعدام تاجر بروتستانتي في الثامنة والستين من عمره اسمه جان كالاس بوضعه تحت التعذيب حتى الموت، والتهمة الموجهة إليه هي قتل ابنه المتحول إلى الكاثوليكية بالتعاون مع آخرين.

عَلِم المفكر الشهير فولتير بالقضية بعد إعدام المتهم بصورة بشعة جدا، فدارت في نفسه شكوك حول تطبيق العدالة فيها، وأن التعصب ربما قاد المحكمة إلى هذه المأساة، ففتش عن ملابسات الحادث وتفاصيله سائلا عائلة كالاس نفسها، واتخذ محاميا يستشيره في القضية التي أنفق عليها من ماله الخاص، ودعا أصحاب الرأي والمال إلى مشاركته في جهوده لإحقاق الحق في هذه القضية، باعتبارها قضية رأي وحق عام.

لم يكن صوت فولتير القوي يدوي فقط في باريس ولا فرنسا وحدها، بل كان يتردد بقوة في كل أنحاء أوروبا، ويُسمع صداه العالي في أروقة العرش الفرنسي ومقر وزارات الحكومة وفي مجالس المثقفين والعامة، وقد ألف في هذه القضية أحد أهم كتبه "رسالة في التسامح" (عرّبتها هنرييت عبودي عام 2009).

كانت هذه الرسالة صوتا مهما أُضيف إلى جهوده وكتاباته الصريحة التي هاجمت التعصب بشراسة؛ حتى سقط الظلم، وحكمت محكمة باريس ببراءة أسرة كالاس كلها ورد اعتبار والدهم الراحل، ومنحهم الملك لويس الخامس عشر مبلغا كبيرا من المال تعويضا عما لحق بهم.

وفي مشهد حقوقي آخر وقع في فرنسا بعد أكثر من مئة وثلاثين عاما من قضية كالاس؛ انقسم الفرنسيون في قضية حقوقية كبيرة أثارت جدلا واسعا منذ عام 1894؛ وذلك باتهام ضابط يهودي في الجيش الفرنسي اسمه ألفريد دريفوس بالتخابر مع الألمان وتسريب أوراق عسكرية مهمة إليهم.

ورغم أن أحداثا كثيرة كانت قد جرت في نهر الحياة الفرنسية بين قضية كالاس وقضية دريفوس، ليس أقلها الثورة الفرنسية ومرحلة نابليون وتوسعاته ثم سقوطه؛ فإن مزاج الحياة الفرنسية بقي كأنه هو، فدفعت معاداة السامية إلى إدانة المتهم والحكم عليه بالسجن مدى الحياة في معتقل رهيب يشبه سجن غوانتانامو الأميركي حاليا.

وفي جو استقطاب مثير صنعته القضية؛ نهض الروائي الفرنسي الشهير إميل زولا حين استشعر الحيف والقسوة في الحكم على دريفوس، وكتب مقاله الأشهر "إني أتهم" (J' accuse) الذي نشره يوم 13 يناير/كانون الثاني 1898، وخاطب به الرئيس الفرنسي حينَها فيلكس فاور، متهما ضباطا في الجيش بتلفيق القضية، وملقيا باللائمة على غفلة قادة الجيش الكبار.

أدى المقال الصارخ إلى اشتعال القضية أكثر ومحاكمة زولا والحكم عليه بالسجن والغرامة المالية، ومع أنه هرب إلى إنجلترا مقلدا سلفه فولتير الذي هرب في شبابه إلى الجزر البريطانية فرارا من حكم آخر بالسجن؛ إلا أن صوت زولا والمدافعين عن حق دريفوس في محاكمة أكثر عدالة أدى إلى إعادة محاكمته ثم تبرئته 1906؛ أي بعد وفاة صاحب "إني أتهم" بأربعة أعوام.

وحتى لا نكون قد رصدنا الظاهرة التي أكدتها هذه الأمثلة بدون تقديم تفسير لها؛ ننقل ما نقله الكواكبي عن باحثين -لم يذكر اسمهم- أنهم برهنوا على أن "الدين أقوى تأثيرا من السياسة إصلاحا وإفسادا، ويمثلون بالسكسون -أي الإنكليز والهولنديين والأميركان والألمان- الذين قبلوا البروتستانتية، فأثر التحرير الديني في الإصلاح السياسي والأخلاق أكثر من تأثير الحرية المطلقة السياسية في جمهور اللاتين؛ أي الفرنسيين والطليان والإسبانيول والبرتغال".

قضية طارق رمضان
بعض وسائل الإعلام العربي لم يعنها -في تناول التهمة الموجهة إلى طارق رمضان- إلا أنه حفيد الشيخ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، مع تعمُّد تقديم صياغة ملتبسة للخبر، مما يعني أن تقديم الخبر تجاوز الأعراف الإعلامية وآداب المهنة، وسعى إلى توظيفه في مكايدات سياسية تمارسها الأنظمة ضد معارضيها.

ولا نستبعد -وفقاً لشواهد سابقة- أن يتطوع بعض أنظمتنا بدعم الهجوم على رمضان، في سلسلة نشاطات غير معقولة يُعادَى فيها الإسلام عربيا حيث كان. والحقيقة أنه من الواجب -في هذا السياق على الأقل- تجاوز هذا الغثاء الذي لم أذكره إلا لكيلا نستغرب كثيرا هذا الجانب المظلم، الذي رصدناه في موقف الرأي العام وقادة الرأي في فرنسا من قضايا الحقوق.

لقد بدا أن جانبا مهما من المجتمع الفرنسي كأنه لابد أن يحمل تعصبا مقيتا ضد طرف ما، ففي قضية كالاس كان هذا الطرف من البروتستانت، وفي قضية دريفوس كان هذا الطرف من اليهود؛ وأما في قضية طارق رمضان فإن التعصب الفرنسي يتوجه ضد المسلمين.

وليس أدل على هذا من الموقف الفرنسي الغريب من الفتاة السورية الأصل (منال) التي شاركت أخيرا في مسابقة للغناء مغطية شعرها، ونالت إعجاب لجنة التحكيم على أدائها الغنائي، إلا أن التعصب الفرنسي بحث -قبل هجومه عليها بشراسة- في سجل تغريداتها عبر تويتر، فعثر على تغريدة لها عقب هجوم نيس 2016 -الذي تجاوز قتلاه الثمانين- تتعجب فيها من أن منفذي العمليات الإرهابية يصطحبون معهم دائما بطاقات هوياتهم!

وبسهولة يمكننا أن نلحظ في قضية طارق رمضان الانقسام الفرنسي نفسه الذي بدا في الشواهد التاريخية السابقة؛ فثمة جبهة قصف معادية يمثلها اليمين الفرنسي وأنصاره، وخصوم رمضان ومخالفوه من الجبهات العلمانية المتشددة والإسلامية المتأثرة بحكومات عربية بعينها، وكلها تلحظ تأثير الرجل وقيمته الفكرية كاتبا ومحاضرا ومناظرا.

فهو صوت أوروبي فصيح تخصص في الأدب الفرنسي والدراسات الإسلامية، ويدرك جيدا مقولات الحياة الغربية، ويفقه الوضع الحضاري الحالي لبلاده الأوروبية، كما أن انتماءه للثقافة الإسلامية ليس من النوع التقليدي الذي يمثله شيوخ السلطان وأشباههم، ولا التأويلي الذي يمثله أصحاب القراءات الجديدة للإسلام من أمثال الجزائري محمد أركون والإيراني عبد الكريم سروش.

وفي مقابل هذه الجبهة؛ ثمة أصوات فرنسية متعاطفة مع طارق رمضان، فموقع "ميديا بارت" دافع عنه بقوة دعت الخصوم إلى انتقاده بشدة، حتى اتهم الوزير الأول السابق مانويل فالس الموقع بالتواطؤ مع "المتهم"، إلا أن أكثر من مئة شخصية وقعوا بيانا داعما لـ"ميديا بارت"، وقال البيان "إننا أمام حملة سياسية لا تمت بصلة إلى الدفاع عن قضايا النساء، بل توظف هذه القضية لفرض أجندة على بلادنا مليئة بالكراهية والخوف".

تبقى قضية فاصلة في موضوع طارق رمضان، وهي: من يدعم التوجه الإنساني الفرنسي لصيانة حقوق المخالف في مواجهة العنصرية البغيضة بكل صورها؟ والحقيقة أن مزيدا من الفهم للظاهرة الفرنسية -التي يرصدها هذا المقال- يقربنا أكثر من الإجابة عن السؤال السابق.

فمن ملاحظة أن موقف سارتر تغير بشأن القضية الفلسطينية حيث ساند العدوان الصهيوني ودعم دولته بصراحة، وأن الكاثوليك والبروتستانت صاروا أشبه بجبهة واحدة ضد انتهاك حقوق الإنسان عقب قضية كالاس، كما قويت جبهة مواجهة أعداء السامية بفرنسا بعد قضية دريفوس.

أقول: من ملاحظة هذا كله؛ يمكننا أن نستنتج أن مثل هذه القضايا ليست قضايا آنية تموت بمجرد الحكم فيها، لأنها تعبّر عن موقف اجتماعي وثقافي راسخ، إلا أن هذا الموقف الراسخ نفسه قد يبدل خياراته مع ظهور نتائج مختلفة لقضايا الحقوق.

وهذا يعني أن قضية طارق رمضان إن وجدت في مسلمي فرنسا ودعاة الحرية فيها ظهيرا عاقلا، بعيدا عن التورط السياسي في قضايا معاداة السامية؛ فقد نشهد صلحا تاريخيا بين أوروبا والإسلام يبدأ من فرنسا التي تعودت أن تصدر إلى جاراتها المواقف الفكرية التاريخية.

أضف تعليقك