• الصلاة القادمة

    الظهر 11:01

 
news Image
منذ ثانية واحدة

اعتقلت السلطات الإسرائيلية، تحت جنح ليل الثلاثاء الماضي، الطفلة عهد التميمي، شقراء قرية النبي صالح الفلسطينية. ولأهالي هذه القرية، شيباً وشباباً وأطفالاً، حكايات طويلة مع الاحتلال الإسرائيلي ومستوطنيه. تسير السيارة من وسط رام الله شمالاً باتجاه قرى سردا وأبو قش، وصولاً الى وسط بيرزيت، ثم تنحرف إلى الغرب، بمحاذاة أطراف قريتي عطارة وأم صفا قبل الوصول إلى المفرق المؤدي يميناً إلى "النبي صالح"، ويساراً إلى مغتصبة حلميش. على هذا المفرق، يبدأ الفرق، وتبدأ حكاية المواجهة المفتوحة بين قريةٍ ترقد وادعةً على واحدة من روابي رام الله ومستوطنة صهيونية اغتصبت صدر الأرض. 

تفوق شهرة قرية النبي صالح مساحتها وعدد سكانها. على طرفها يقع مقام يُسمى النبي صالح، لطالما حجّ الناس إليه من كل أطراف فلسطين، حتى صار"موسم النبي الصالح" السنوي كرنفالاً للتراث الشعبي الفلسطيني، تتبارى فيه فرق الدبكة والزجالة. قبل الانتفاضة كان مدخل القرية يستقبل زوار "النبي" بقوس نصر تعلوه عبارة "النبي صالح ترحّب بكم". أما الآن فقد بشَّع الإحتلال وجه القرية ببوابة حديدية، وبرج إسمنتي يشبه وجه إسرائيل الكريه. تجاوزت سمعة القرية حدود الوطن قبل أشهر قليلة، عندما تناقلت وكالات الصحافة العالمية صور طفلة تهجم على جندي إسرائيلي لتحرير شقيقها من قبضته. إنها عهد التميمي، نفسها التي عادت صورتها لتتصدّر المشهد، عندما لكمت ضابطا إسرائيليا نهار الإثنين الماضي، وعندما دهم الجند منزل أهلها واعتقلوها فجر الثلاثاء، ثم اعتقلوا أمها بعد ساعات. 

ذات صباح بعد نكسة 1967، استيقظ أهالي "النبي صالح" على صوت جرافات الاحتلال تشق صدر الأرض، وتقلع أشجار الزيتون، لتغرس في مكانها مستعمرة، ومستوطنين بوجوه شاحبة، قادمين من أقاصي الأرض. منذ ذلك اليوم المشؤوم، صارت مغتصبة حلميش وجعا في صدر أهل القرية، كما هو الاحتلال ومستوطناته غصّة في صدر كل فلسطيني. لم يقبل أهالي "النبي صالح"، اختاروا طريق المقاومة للخلاص من الاحتلال، و قطعان "حلميشه". منهم من التحق بالثورة الفلسطينية منذ انطلاقتها، وتنقل مع قواعد الفدائيين من الضفة الغربية إلى أغوار الأردن ثم إلى جبال لبنان. ومنهم من اعتقل وقضى في سجون الاحتلال زهرة شبابه، أو لايزال خلف القضبان. ومنهم من قضى شهيدا على طريق الحرية والاستقلال، ومنهم من ينتظر صابراً مرابطاً حاملاً مشعل المقاومة. "نصب الشهيد" القائم وسط ساحة القرية يُخلّد أسماء كوكبة شهداء القرية على مذبح الحرية والتحرير. 

منذ اليوم الأول لوصول المستوطن الأول، ومغتتصبة حلميش تتدثر بالرعب، ومستوطنون غرباء، مدججون بأسلاك العنصرية الشائكة، يختبئون خلف جدران الخوف العالية، ويرصدون من بيوت القرميد الأحمر بيوت "النبي صالح" المُشرعة للشمس، ونسائم الهواء العليل القادم من جبال الطور المقدسية. مع أول ضوء النهار، يتسلل المستوطنون المدجّجون بالسلاح تحرسهم سيارات الجيش المدرعة، باتجاه مدن الداخل الفلسطيني. هناك يعملون نهاراً، ويرجعون ليلاً إلى "حلميش"، ليناموا إن استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. جدار عال من الحقد والكراهية، وأسوار من العمى والتضليل، تعبرها قسراً ضحكات أهل "النبي صالح"، وسحابات دخان "المعسل" المنبعث من نراجيل المُرابطين تحت شجرة التوت، يحمون تاريخ الأولين، وتحرس عيونهم أحلام النائمين. 

وللتوتة حكاية أخرى في القرية، فهي الشاهد على فلسطينية الأرض، وأمين سر أهلها، وحارس ذكرياتهم. ذات يوم، جاء صحافي أجنبي للتعرّف على أحوال الناس بعد الاحتلال، وساقه قدره إلى قرية النبي صالح، و قصد التوتة، سائلاً أحد "الختيرية" المستظلين تحتها، منذ متى أنتم هنا يا حاج؟ أجاب الحاج، وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة بوسع حقول الزيتون المحيطة بالقرية: هل تعرف سيدنا آدم أبو البشر؟ نعم، أجاب الصحافي. نحن سبقناه إلى هذه الأرض، وتحت هذه التوتة استقبلناه. قال الحاج، وجال ببصره بعيداً، وكأنه يرسم للصحافي خطاً بيانياً يربط ما بين ظل نصب الشهيد وظل التوتة الشاهد.

أضف تعليقك