• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

أدت بيعة العقبة الثانية، وما اشتملت عليه من بنود النصرة والمنعة وما تلاها من هجرة الصحابة من مكة إلى المدينة إلى ظهور المجتمع السياسى الإسلامى الأول، وبالهجرة اجتمع أصحاب المنهج الفكرى الواحد، على أرض يأمنون فيها، تحت قيادة يرتضونها، فتحول المجتمع الإنسانى إلى مجتمع سياسى، وبتولية النبى صلى الله عليه وسلم زمام السلطة السياسية فى المدينة، وكتابته للوثيقة التى يسميها كثير من الباحثين " دستور المدينة " وعقد ما يمكن تسميته حديثًا باتفاقية دفاع مشترك بين أهل المدينة قاطبة مسلمين وغير مسلمين، بهذا تأسست دولة الإسلام الأولى وتشكلت معالمها السياسية، حيث تحقق لها العناصر اللازمة لتكوين الدولة من الشعب والأرض والقيادة.
 
وقد اشتملت وثيقة المدينة أو دستور المدينة " على أهم المبادئ السياسية التى تقوم عليها أعظم الدول عراقة وحضارة فى عالم اليوم.
فقد اشتملت على مبادئ تحديد أساس المواطنة فى الدولة، وتوسيع نطاقها فلم تحصر المواطنة فى المسلمين وحدهم، بل نصت الوثيقة على اعتبار اليهود المقيمين فى المدينة من مواطنى الدولة وحددت ما لهم من حقوق، وما عليهم من واجبات، وكذا مبدأ تعيين شخص رئيس الدولة، وتقرير مبدأى العدل والمساواة، وتقرير مبدأ الانضمام إلى المعاهدة بعد توقيعها، ومنع إبرام صلح منفرد مع أعداء الأمة.
 
لقد كان واضحًا منذ بداية دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم أنها دعوة عالمية شاملة، السياسة فيها حلقة من حلقاتها، ولا تنفك السياسة فى مبادئها عن الأخلاق، ولا المعاملات عن السلوك، ولا الاقتصاد عن العبادات.
 
لقد كانت نشأة الدولة الإسلامية الأولى فى المدينة تتويجًا لهذا التصور الشامل، والذى كان واضحا تمام الوضوح فى دعوة النبى صلى الله عليه وسلم فى العهد المكى يوم أن كان هو وأصحابه مضطهدين فى مكة، وإن العهد المدنى بكل مشتملاته إنما هو امتداد طبيعى للعهد المكى دونما تغير فى المبادئ والتصورات العامة، وإن جاءت التشريعات فيه أكثر تفصيلًا، وإن زيدت بعض المبادئ بما يناسب طبيعة الزمان والمكان الجديدين.
 
وقد نقل الدكتور محمد ضياء الدين الريس فى كتابه القيم " النظريات السياسية الإسلامية " عن المستشرق " جب " ما يوضح هذه الحقيقة التاريخية، ونحن ننقل عنه مقالته لأهمية كلامه كونه يصدر عن غير مسلم، والحق ما شهدت به الأعداء، هذا من جهة، ومن جهة أخرى كونه يعبر عن الحقيقة التاريخية بأصدق ما يكون التعبير وأدقه. يقول : يُنظر إلى الهجرة غالبًا على أنها نقطة تحول آذنت ببدء عهد جديد فى حياة محمد وأخلاقه، ولكن المقابلة المطلقة التى يعرضونها عادة بين شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم غير المشهور المضطهد فى مكة، وبين شخصية المجاهد فى سبيل العقيدة فى المدينة ليس لها ما يبررها من التاريخ. لم يحدث انقلاب فى تصور محمد لمهمته أو شعوره به.
 
من الوجهة الشكلية ظهرت الحركة الإسلامية بصورة جديدة، وأدت إلى إيجاد مجتمع قائم بذاته منظم على قواعد أساسية تحت قيادة رئيس واحد.
 
ولكن هذا لم يكن إلا مجرد إظهار ما كان مضمرًا – أي ما كان نظريًا، وإعلان ما كان مستترًا، فقد كانت فكرة الرسول الثابتة ــ وكانت هى أيضًا ما يتصوره خصومه ــ عن هذا المجتمع الدينى الجديد الذى أقامه أنه سينظم تنظيمًا سياسيًا، ولن يكون هيئة دينية منفصلة مندرجة تحت حكومة زمنية. وكان يبين دائمًا فى عرضه لتاريخ الرسالات السابقة أن هذه هى إحدى الغايات الأساسية التى تتألف منها الحكمة الإلهية فى إرسال الرسل. فالشئ الجديد الذى حدث بالمدينة هو إذن فقط:" إن الجماعة الإسلامية قد انتقلت من المرحلة النظرية إلى المرحلة العملية.
 
لقد أقام النبى صلى الله عليه وسلم على أساس مبادئ وثيقة المدينة دولة بالمعنى الفنى الكامل لهذا المصطلح عند أهل الاختصاص، ومارس فيها فعلًا أمور الحكم والرئاسة.
 
ومارست هذه الدولة الجديدة السلطات التى تمارسها أية دولة فى العالم ــ قديمه وحديثه ــ وهى سلطات التشريع والقضاء والتنفيذ، ورغم أن هذه التعبيرات من ابتداع النظم الدستورية والقانونية فى العصر الحديث إلا أنه من المسلم أن الدولة الإسلامية ــ منذ قيامها ــ قد عرفت هذه السلطات كما يقول أستاذنا الدكتور محمد سليم العوا.

أضف تعليقك