• الصلاة القادمة

    الظهر 11:01

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بين الخامس عشر من نوفمبر 1917م تاريخ وعد بلفور, وإعلان تيريزا ماي رئيسة الوزراء البريطانية افتخار بلادها بذلك الوعد، مسيرة مئة عام على أبشع احتلال كابده شعب, وأسوأ كارثة استعمارية ابتليت بها أرض.

ففي ذلك اليوم قبل مئة عام وجه آرثر جيمس بلفور وزير الخارجية البريطاني والناطق باسم الحكومة آنذاك إلي يهود العالم عبر رجل الإعمال اليهودي وولتر دي روتشيلد، هذه البرقية : (عزيزي اللورد روتشيلد: يسرني جداً أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة صاحب الجلالة التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرته:” إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية” ).. وأصبح ذلك القرار منذ صدوره يعرف بـ” وعد بلفور ” ويتضمن التزام الحكومة البريطانية بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، “وعد ممن لا يملك لمن لا يستحق”.

هذا الوعد لم يصدر عن مشاعر عاطفية من بريطانيا نحو اليهود، وإنما جاء في إطار مشروع استعماري كبير للمنطقة، امتد منذ حملات نابليون بونابرت ونداءه الشهير لليهود عام 1799م بوطن قومي لهم في فلسطين (أيها الإسرائيليون انهضوا، فهذه هي اللحظة المناسبة.. إن فرنسا تقدم لكم يدها الآن حاملةً إرث إسرائيل، سارعوا للمطالبة باستعادة مكانتكم بين شعوب العالم).

خرج ذلك النداء من نابليون؛ صاحب أكبر امبراطورية – في ذلك الوقت – في لحظة حرجة واجه فيها الهزيمة عند أسوار عكا، فسعى لاستجلاب دعم يهود العالم خاصة في أوروبا وروسيا لحملته العسكرية وانقاذها من الفشل. وبعد هزيمة جيوش نابليون في معركة “واترلو” في 18 يونيو 1815 م  قرب بروكسل وسقوط الإمبراطورية الفرنسية، تولت الامبراطورية البريطانية قيادة العالم في عهد رئيس الوزراء البريطاني بالمرستون الذي تبني مشروع الوطن القومي لليهود في فلسطين، وكان وعد بلفور يمثل امتدادا لذلك المشروع الاستعماري الغربي في المنطقة العربية (المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل جـ1 ـ بتصرف ـ محمد حسنين هيكل).

إذا.. هذه المساعي من أكبر امبراطورية تحكم العالم (فرنسا ثم بريطانيا ثم اليوم أمريكا) لإقامة وطن لليهود في فلسطين وعلى حساب شعبها ثم التمكين لهم في كل فلسطين هي وليدة أطماع استعمارية، وتجسد أبشع صور الاستعمار، لأنها قامت على سرقة وطن وتشريد شعب ومحاولة إبادته خلال قرن من الزمان وهي ليست وليدة مشاعر إنسانية على الإطلاق.

وبعد مئة عام تبين أن الهدف لم يكن إقامة وطن لليهود على جزء من أرض فلسطين ولا حتى تقسيم فلسطين الذي تجلى في قرار التقسيم رقم (181) الصادر من الأمم المتحدة عام 1948م، مانحاً الصهاينة الغاصبين معظم الأرض، ومتفضلاً على أصحابها بالفتات من أرضهم. وقد ثبت أن الهدف التهام كل فلسطين، وسيظل ذلك القرار مثالا على امتداد التاريخ يؤكد أن الوحش الاستعماري يفرض بجبروته ما يريد، ويُخضع بقية العالم لمخططاته، ويوظف الأمم المتحدة خادماً لمشاريعه كـ”حامل أختام” باسم الشرعية الدولية.

وعد بلفور يجسد مرحلة غرس المستعمر الصهيوني الجديد بالجسد العربي المسلم في فلسطين، ويشهد التاريخ أنها كانت عملية زراعة صعبة وأشد إيلاماً، فقد نالت من الجسد الفلسطيني، بخضوع من الطرف العربي؛ بل وتواطؤ من البعض.

 ويشهد تاريخ القضية أن عملية غرس المستعمر الصهيوني في قلب الجسد العربي فعلت به الأفاعيل حتى أثخنته بالجراح، نهبا للأرض، وإنزالا للعقاب بأهله.. ذبحاً وقتلاً وتشريداً وتدميراً على أيدي وأعين بريطانيا العظمى، وبرضا من العالم الغربي، وتشهد الأرقام والوثائق ارتكاب الصهاينة أكثر من 250 مجزرة منذ العام 1937م حتى الحرب الأخيرة على غزة ( 8 يوليو 2014م )، ومازالت آلة الاغتصاب تواصل التهام الأرض وتمزيقها، وحشر ما تبقى من الشعب داخل كانتونات الجدار الإجرامي العازل في الضفة الغربية مع أكثر من 500 حاجز عسكري، إضافة لحصار حديدي حوّل «غزة» إلى سجن كبير لم يتم فكه ولا تخفيفه حتي اليوم.

وكما جندت بريطانيا وأمريكا قبل أكثر من ستين عاماً أطرافاً عربية لتسهيل المهمة؛ مهمة صناعة النكبة الفلسطينية ، يسعى الجميع اليوم لإسدال الستار على القضية, ولكن هيهات!

فمن يراجع تاريخ هذه القضية منذ بروزها وحتى اليوم؛ يكتشف بسهولة أن بعض الأيدي العربية الرسمية أسهمت بنصيب وافر في مساعدة الصهاينة على اختراق الأراضي الفلسطينية، وتثبيت وجودهم، وإقامة كيانهم الغاصب، ثم صناعة سياج يحميه على الحدود عبر اتفاقيات ما يسمَّى بـ«السلام».

ففي البدايات الأولى للتسلل الصهيوني لفلسطين في نهاية الثلث الأخير من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، كانت الأراضي المصرية في العهد الملكي البائد، وخلال الاحتلال الإنجليزي إحدى محطات استقبال وإعداد جموع الصهاينة القادمين من مناطق عدة في العالم، تمهيداً لدخول فلسطين. (المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل، ج1 – بتصرف).

وعندما صدر وعد بلفور، وهو القرار الذي يعني في ذات الوقت طرد أصحاب الأرض وتشريدهم وإبادتهم، كان الذي أطفأ انتفاضة العرب في داخل فلسطين عام 1929م ثم «ثورة العرب الكبرى» عام 1936م، هو تدخل بعض الحكام العرب عبر ندائهم الشهير في الأسبوع الثاني من شهر أكتوبر عام 1936م: «… ندعوكم إلى الإخلاد إلى السكينة، حقناً للدماء، معتمدين على حسن نوايا صديقتنا الحكومة البريطانية، ورغبتها المعلنة لتحقيق العدل…» (محاضرات في تاريخ قضية فلسطين، ص186).

وبالفعل خلد الثائرون إلى السكينة، ولم يتحقق إلا زيادة الظلم ظلاماً وإظلاماً، وواقع الحال اليوم خير شاهد.

وفي يونيو 1946م، اجتمع سبعة من الحكام العرب في مدينة «أنشاص» المصرية، وأعلنوا «التمسك باستقلال فلسطين وعروبتها»، ولحق هذا الاجتماع اجتماعٌ للجامعة العربية في مدينة «بلودان السورية»، لكن رئيس مخابرات الجيش البريطاني في الشرق الأوسط «كلايتون» والمدير المساعد للمخابرات البريطانية في فلسطين «برايانس» حضرا الاجتماع الذي لم يستطع أحد من المشاركين فيه الخروج على رغبة بريطانيا بشأن فلسطين، وقرر المجتمعون الإذعان لما طلبته بريطانيا، وهو مفاوضة الحكومة البريطانية حول فلسطين، فإن فشلت المفاوضات انتقل النقاش للأمم المتحدة التي كانت جاهزة بقرار تقسيم فلسطين في 14 مايو 1948م، وهو «قرار النكبة» الذي أذعن له العرب؛ بل إن الجامعة العربية لم تتمكن من تنفيذ أحد قراراتها بتقديم مليون جنيه مساعدة للفلسطينيين إذعاناً للإملاءات البريطانية، وهو ذات الموقف الذي حدث للجامعة العربية لاحقًا عندما قررت كسر الحصار عن الشعب الفلسطيني في غزة، لكن حرفاً واحداً من هذا القرار لم ينفذ ومازال الحصار قائما حتي كتابة هذه السطور!.

 ثم وقعت حرب 1948م التي حفلت بخيانات واختراقات على الجانب العربي، وسحق للمجاهدين من المقاومة الشعبية، مثلما حفلت عملية إصدار قرار التقسيم بتواطؤ كبير من أمين عام الأمم المتحدة في ذلك الوقت «تريجفي لي»، وبضغوط شديدة على الدول الرافضة للتقسيم.

 وقبل صدور قرار التقسيم رفضت بريطانيا حضور الوفد الفلسطيني لمؤتمر لندن عام 1946م، ورغم إلحاح الطرف الفلسطيني على وفد الجامعة العربية العمل على حضوره إلا أن الدول العربية لم تُعرْ ذلك الإلحاح اهتماماً، وذهب وفد الجامعة إلى لندن وحده وقدم أول هدايا التنازل العربي عن فلسطين إلى «بيفن» وزير الخارجية البريطاني، عبر مشروع أطلق عليه «المشروع العربي» الذي ينص في أهم وأخطر أجزائه على ما يلي:

«اعتراف العرب بما لليهود من كيان ومكان في فلسطين، على ألا يزيدوا في أي يوم من الأيام عن ثلث السكان، وهم مستعدون للسماح بهجرة جديدة عند اللزوم للمحافظة على النسبة المذكورة، وإنشاء مجلس تمثيل لا يتجاوز أعضاء اليهود فيه نسبة الثلث، على ألا يتخذ في ذلك المجلس أي قرار بشأن هجرة اليهود ومصالح اليهود، إلا إذا وافقت على ذلك أكثرية الأعضاء اليهود، على أن يتمتع اليهود في مناطقهم بحقوق دستورية، وبلغتهم العبرية وبالإشراف على التعليم وبقسط وافر من الحكم الذاتي، وأن يكون ذلك وسط دولة فلسطينية مرتبطة مع بريطانيا بمعاهدة تحالف» (جهاد شعب فلسطين خلال نصف قرن، صالح سعود أبو بصير، ص 294).

وهكذا في غيبة أصحاب القضية؛ المكتوين بنار ما يجري، قدمت الجامعة العربية رسمياً أول التنازلات في فلسطين، وأرست طائعة مختارة أولى لبنات الكيان الصهيوني، مسطرة الكلمات الأولى من كتاب النكبة الأسود بحروف من الذل والهوان.

ومن هنا جاء إعلان رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي في ردها علي أسئلة أعضاء مجلس العموم البريطاني ( 25أكتوبر 2017م ) أن بريطانيا ستحتفل  بالذكرى المئوية لصدور وعد بلفور، وقولها: “إننا نشعر بالفخر من الدور الذي لعبناه في إقامة دولة إسرائيل، ونحن بالتأكيد سنحتفل بهذه الذكرى المئوية بفخر”!

وهكذا .. بينما تفتخر بإهداء فلسطين للصهاينة ولا تكترث بتشريد شعبها ووقوعه تحت المجازر الصهيونية .. فهي هي التي لم تتردد عن الإعلان  في أول خطاب لها في يوليو 2016 م بعد توليها رئاسة الحكومة ،أنها لا تمانع – في سبيل الحفاظ علي بلادها ( بريطانيا ) –  من الموافقة على ضربة نووية قد تؤدي إلى مقتل مئة ألف شخص مدني من الأطفال والنساء والرجال الأبرياء!.مؤكدة أن أعداء بريطانيا لا بد أن يعلموا أنها مستعدة لاستخدام السلاح النووي إذا ما تعرضت لأي تهديد.

إنه تاريخ استعماري متوحش، مازال ينزف بالدماء.

أضف تعليقك