• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

فجأة، وبعد القمة الإسلامية الأميركية في الرياض، قرّرت السعودية والبحرين والإمارات ومصر قطع علاقاتها مع قطر وتوجيه اتهامات لها بدعم الإرهاب، وفرض إجراءات عقابية ضدها. وشكل هذا الأمر قلقا في الدوائر السياسية الغربية، وقرّر الاتحاد الأوروبي، بزعامة ألمانيا، بالتنسيق أيضا مع فرنسا الشريك الأساسي داخل الاتحاد، اتخاذ موقف تجاه الأزمة. ومنذ اللحظة الأولى، اتسم الموقف الألماني بالحكمة، إلى جانب رفض هذه الاتهامات. دعت الحكومة الألمانية، منذ اللحظة الأولى للأزمة، جميع الأطراف إلى ممارسة أقصى قدر من ضبط النفس، واحترام التزاماتها بموجب القانون الإنساني الدولي. وهو ما عبر عنه وزير الخارجية الألماني، زيجمار جابرييل، في أثناء لقائه مع نظيره السعودي، عادل الجبير، في يونيو الماضي. وقد حاول الجبير، في برلين، إقناع الطرف الألماني بالأسباب التي على أساسها اتخذت الدول المقاطعة قرارها، كما أنه حاول تأكيد الاتهامات الموجهة لقطر بدعم الإرهاب، إلا أن وزير الخارجية الألماني لم يجلس صامتا، بل كان رده واضحا تجاه هذه الاتهامات، قائلا: "ليست هناك أدلة واضحة فيما يتم ترويجه ضد قطر. ولدينا، نحن الألمان وكذلك لدى الأوروبيين، معلومات عن منظمات ومؤسسات، وكذلك أفراد، يقومون بتمويل الجماعات الإرهابية، بعض هذه المؤسسات من داخل العربية السعودية، وهذا غير مقبول بأن تكون هناك تمويلات لجماعات إرهابية من داخل الائتلاف الدولي الذي يحارب الإرهاب". وقد عبرت هذه الإجابة عن الموقف الألماني، وبالتالي الموقف الأوروبي، تجاه تلك الأزمة، كما أنها أكدت على أمور عدة:

أولا: رفض ألمانيا الحصار الاقتصادي والتجاري والمالي على قطر. وقد أعرب الوزير الألماني بوضوح عن ذلك في لقاء مع نظيره القطري، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، في مدينة فولفنبوتل الألمانية، بقوله: "نحن مقتنعون بأن هذه اللحظات هي لحظات الدبلوماسية، ويجب أن نقيم حوارا ونتحدث مع بعضنا، إلى جانب زملائنا الأميركيين، وكذلك أطراف الأزمة المختلفة. ويجب أن يتم ذلك كله بالتوازي مع رفع الحصار البحري والجوي المفروض من دول المقاطعة".

ثانيا: الموقف الألماني مؤسس على رفض مبدأ الحرب، فقد عبر جابرييل عن أن تكلفة الحرب باهظة، وأن لدى ألمانيا خبرة في هذا المجال، وقال إن أوروبا حينما دخلت إلى الحرب العالمية الثانية دخلت وهي نائمة. ولذلك علينا أن نبذل قصارى جهدنا لنتجنب اندلاع حربٍ دمويةٍ سيدفع الجميع ثمنها. وقال بوضوح إن هناك فرصة حقيقية لنزع فتيل الأزمة. ويعبر هذا الرفض الألماني عن أن الأوروبيين لن يكونوا جزءا من القرار الأميركي الذي أعطى الإشارة الضمنية لبدء عملية الهجوم الإعلامي والسياسي على قطر. ويذكّر هذا الموقف بالموقف الألماني إبّان حرب العراق، حينما رفض وزير الخارجية الألماني، يوشكا فيشر، في إحدى جلسات مجلس الأمن، التحركات الأميركية ضد العراق، وعبر عن رفضه لها، ووصف أي حرب سيتم اتخاذها من دون إجماع من الأمم المتحدة بالحرب اللا شرعية. ودعا حينها فيشر إلى بذل مزيد من الجهود الدبلوماسية لحل الأزمة العراقية. كما عبر المستشار الألماني في حينه، جيرهارد شرودر، عن رفض بلاده التحركات الأميركية، وقال لأعضاء حزبه لا تتوقعوا أن توافق ألمانيا على قرار يعطي الشرعية للحرب. وكان الموقف الألماني متوافقا مع الموقف الفرنسي الذي رفض استخدام القوة العسكرية ضد العراق.

ويعكس ذلك الموقف، كما مواقف أخرى، في جوهره، التفاهم بين اللاعبين الأساسيين في الاتحاد الأوروبي -ألمانيا وفرنسا- واللذين يحاولان الاستقلال عن القرار الأميركي. فكرة الاستقلال ضد السياسة الأحادية للولايات المتحدة، والتي تتناقض مع روح ميثاق الأمم المتحدة تعزّزت، خصوصا بعد غزو العراق في العام 2003، وتعزّزت في الوقت الحاضر بعد انتخاب الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وتصريحاته أن حلف شمال الأطلسي (الناتو) عفا عليه الزمن، ولم يعد لديه القدرة الحقيقية لمواجهة الإرهاب. كما أنه دعا الدول الأوروبية المختلفة للسير على خطى بريطانيا بالخروج من الاتحاد الأوروبي. قوبلت هذه التصريحات برفض شديد من الجانب الألماني. وقد عبرت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، بوضوح عن رفضها ذلك، وقالت إن الولايات المتحدة، وكذلك المملكة المتحدة، لم يعودا شركاء موثوقين. واقتبست فقرة من خطاب للرئيس الأميركي السابق، جورج كيندي، ألقاه في فرانكفورت عام 1963، أن الذين ينظرون فقط إلى الماضي أو الحاضر مؤكّد أنهم سيفوتون المستقبل. وقالت: نحن الأوربيين بحاجة إلى امتلاك مصيرنا بأيدينا.

ثالثا: عانت أوروبا، في السنوات الأخيرة، وخصوصا مع اندلاع الأزمة السورية، ومازالت تعاني، من موجات اللجوء التي كشفت عن حجم الأزمة داخل الاتحاد الأوروبي بأنه مؤسسة سياسية، لم تستطع أن تصنع حالة من التوافق بين أعضاء الاتحاد الأوروبي، ما شكل عبئا علي عدد من أعضائه دون الآخرين، فقد استقبلت ألمانيا أكبر عدد من طالبي اللجوء عن بقية الاتحاد الأوروبي، ما عرّض الساسة الألمان لنقد وهجومٍ كثيرين من مواطنيهم، ما اضطر المستشارة الألمانية، فيما بعد، إلي زيارات إلى عدة دول، وعقد اتفاقاتٍ تحد من تدفق اللاجئين إلى أوروبا. كما أن التوتر القائم بين ألمانيا وتركيا من ناحية أخرى استخدمت فيه أزمة اللاجئين نوعا من الضغط السياسي الممارس من تركيا في مواجهة دول الاتحاد. لذا، المنطلق الأساسي لهذا الحراك الألماني هو الحفاظ على أمن الخليج من ناحية، لضمان عدم تفجر الأوضاع في المنطقة، لأن اندلاع حرب إقليمية سيؤدي إلى مزيد من المعاناة، وموجات لجوء كبرى ستعاني منها أوروبا أولا، كما أنها ستؤدي إلى تغيير موازين القوى داخل هذه المنطقة. بالتوازي مع الحفاظ على أمن تلك المنطقة التي تعتبر مصدر طاقة مهما لجميع دول العالم، ويعتبر هذا الأمر أحد أهم أسس النظام السياسي العالمي الحالي.

رابعا: يتميز الموقف الألماني أيضا بنوع من البراجماتية في التعامل، حيث يقوم على مراعاة المصالح الاقتصادية مع قطر التي تعتبر شريكا اقتصاديا صلبا لألمانيا، فقد بدأ تعزيز العلاقات الاقتصادية بين البلدين قبل 40 عاما، ووصل إلى درجة عالية من التكامل والشراكة الاقتصادية، ففي 2015، قدر حجم التجارة الثنائية بنحو 2.54 مليار يورو، وبلغت قيمة الصادرات الألمانية إلى قطر حوالي 2.16 يورو في 2001، وبلغت الواردات الألمانية من قطر حوالي 388 مليون يورو. إلي جانب ذلك، تمتلك قطر بعض سندات مؤسسات اقتصادية ألمانية، مثل دويتشة بنك وفولكسفاجن وغيرهما. من ناحية أخرى، لدى ألمانيا استثمارات اقتصادية مهمة في المنطقة، خصوصا مع إيران، نشأت بعد الانفتاح الغربي على طهران بعد الاتفاق النووي الإيراني. ولذلك تسعى ألمانيا إلى الحفاظ على قوتها الاقتصادية في المنطقة وتوسيع قاعدتها والحفاظ على أمن المنطقة واستقرارها.

.. أصبحت ألمانيا رائدة الاتحاد الأوروبي والعالم الليبرالي، وهي تحاول أن تعبر عن قدرتها على تحقيق التوازن في مناطق الصراع، مثل الشرق الأوسط. فقبل عقود، اكتسبت ألمانيا خبرة في مجال حل النزاعات. وما زلنا نتذكّر دور ألمانيا الحاسم في إنهاء الحرب الكولومبية، من خلال اتفاق سلام بين المتمردين من حركة فارك والحكومة الكولومبية. ولذلك، منذ اللحظة الأولى، كانت ألمانيا تشارك في أزمة الخليج الحالية بمحاولة إيجاد حل. والواضح أن ألمانيا، وحلفاءها الأوروبيين وخصوصا فرنسا، لعبوا دورا مهما في تبريد الأزمة، ومن خلالها أعادوا دور أوروبا في الشرق الأوسط، فالأوروبيون يسعون إلى بدء حقبة الاستقلال الأوروبي.

أضف تعليقك