• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

 تثير كتابات الإسلاميين التائبين، سواء معتدلين أو جهاديين سابقين، كثيراً من التأمل والتفكير بشأن طبيعة العلاقة المركّبة التي كانت تجمع هؤلاء بجماعاتهم وحركاتهم وتنظيماتهم، قبل أن ينشقّوا عنها ويتركوها لأسباب مختلفة. نظرياً، تمثل كتابات هؤلاء منجماً بحثياً ومصدراً مهماً للمهتمين والباحثين في ظاهرة الحركات الإسلامية، وتفكيك علائقها بالمجتمع والسياسة والفضاء العام، خصوصا إذا كانوا من المستوى القيادي، ولديهم حضور في مسألة صنع القرار داخل هذه الجماعات والتنظيمات. ولكن، في أحيان كثيرة، يختلط الشخصي بالموضوعي، والخاص بالعام، فتصبح مهمة الباحث أكثر تعقيداً في فهم هذه الكتابات وتفكيكها، ومحاولة رسم صورةٍ تحليليةٍ حقيقيةٍ عما يحدث داخل هذه التنظيمات. ولا تخلو كتابات هؤلاء الإسلاميين السابقين من تحيّزٍ يعكس انحيازاتهم الشخصية، وملابسات تركهم جماعاتهم، وهو ما يعقّد مهمة الباحث المتخصص الذي يجب أن يكون واعياً بهذه التحيزات وسياقاتها، حتى لا يقع في فخ التحليل أو التأريخ الأحادي للظاهرة الإسلاموية. 

على أن ما يثير التأمل، وأحيانا الحيرة، في هذه الكتابات، هو حجم التحريض والهجوم الذي يوجهه هؤلاء المنشقون إلى جماعاتهم وتنظيماتهم السابقة، وذلك فيما يشبه نوعاً من التبرؤ والتطهّر الذاتي من ماضيهم. وهو ما يأتي، في أحيان كثيرة، على حساب الحقائق والتجربة التاريخية التي عاشوها بالفعل داخل تنظيماتهم. ففي بعض الأحوال، يبالغ بعضهم في دوره داخل التنظيم والجماعة، وذلك مثلما يفعل إسلاميون سابقون، أمثال المصريين مختار نوح وثروت الخرباوي المنشقَين عن جماعة الإخوان المسلمين، واللذين لم يتمتعا بدور قيادي كبير فيها، حيث لم يكن لأيٍّ منهما دور مؤثر في صياغة رؤية الجماعة وصنع قرارها، وعلى الرغم من ذلك، وصلا في عدائهما الجماعة إلى حد التحريض علناً على أعضائها، والمطالبة بتصفيتهم، والتخلص منهم، خصوصا في مرحلة ما بعد انقلاب 3 يوليو/تموز 2013 في مصر. ومن يقرأ ما يصرّح به الرجلان أو يكتبانه، خصوصا الخرباوي، عن الجماعة، يكتشف بسهولة حجم المبالغة في دورهما داخل التنظيم والجماعة، وهما اللذان لم يكونا يوماً أعضاء في مكتب الإرشاد أو مجلس الشورى العام للجماعة أو في المكاتب الإدارية للجماعة، ولم يتعدّ كونهما كانا ممثلين للجماعة في "نقابة المحامين" المصرية أواخر الثمانينيات وحتى منتصف التسعينيات، قبل أن ينشقّا عنها أوائل الألفية الجديدة. ولا يمكن بحال أخذ ما يقولانه عن الجماعة بكثيرٍ من الثقة والجدية، ليس فقط نتيجة عدم توليهما أي منصب قيادي داخل الجماعة، أو المشاركة في وضع استراتيجيتها، وإنما أيضا لاختلاط الشخصي بالموضوعي، وتركهما الجماعة في ظروف أزمة لكليهما مع قيادة الجماعة نتيجة خلافاتٍ تنظيمية. "يمارس بعض المنشقين نوعاً من الثأر والانتقام من جماعته بأثر رجعي، إما بسبب تهميشه تنظيمياً أو تعرّضه لغبنٍ شخصيٍّ من القيادات، وذلك كما هو الحال مع الدكتور محمد حبيب" 
وفي أحيان أخرى، يمارس بعض المنشقين نوعاً من الثأر والانتقام من جماعته بأثر رجعي، إما بسبب تهميشه تنظيمياً أو تعرّضه لغبنٍ شخصيٍّ من القيادات، وذلك كما هو الحال مع الدكتور محمد حبيب، النائب الأول السابق للمرشد العام للإخوان، والذي استقال من الجماعة عقب ثورة يناير، بعد أن جمّد عضويته فيها بشكل غير رسمي، بعدما فشل في الوصول إلى منصب المرشد العام للجماعة. فمن يقرأ مقالات الرجل، خصوصا في مرحلة ما بعد الانقلاب، يُفاجئه حجم الهجوم والتعريض و"التصحيح السياسي" الذي يمارسه ضد جماعته السابقة، والتي وصل فيها إلى أعلى المناصب القيادية، وكان على مرمى حجر من قيادتها، قبل إزاحته بفعل التوازنات الداخلية. ومن يقرأ مذكراته "ذكريات محمد حبيب" التي أصدرها قبل خمسة أعوام عن دار الشروق في مصر (صدرت طبعتها الأولى عام 2012)، يكشف حجم المرارة التي يتحدّث بها الرجل عن علاقته بالجماعة، خصوصا في أيامه الأخيرة فيها. 

وتزداد المسألة تعقيداً عندما يقع الإسلاميون المنشقون في فخ التوظيف السياسي من خصومهم السابقين، خصوصا الأنظمة السلطوية التي تستخدمهم رأس حربة في مواجهة جماعاتهم وزملائهم السابقين. وقد حدث هذا مراراً كثيرة، سواء مع من سبقت الإشارة إليهم أو مع غيرهم. فعلي سبيل المثال، نجح نظام "3 يوليو" في توظيف نوح والخرباوي، ومن بعدهم كمال الهلباوي وسامح يوسف وعبد الجليل الشرنوبي وأحمد بان وغيرهم من المنشقين، في استخدامهم من أجل التحريض على جماعة الإخوان، وشيطنتها تمهيداً لتصفيتها. وليس غريباً أن يحتفي الحلفاء الإقليميون لهذا النظام، ووسائل إعلامهم، بهذه الشخصيات التي يتم تقديمهم باعتبارهم "خبراء ومتخصصين في شؤون الجماعات الإسلامية"، من دون ذكرٍ لعلاقاتهم السابقة بالتنظيم. 

لا يقتصر الأمر على إسلاميي المنطقة، فهناك إسلاميون غربيون انشقوا عن تنظيماتٍ وجماعاتٍ إسلامية متنوعة، سواء معتدلة أو جهادية، وسوّقوا أنفسهم خبراء في شؤون هذه الجماعات، وألّفوا كتباً وكتبوا مقالات في أهم الصحف والجرائد العالمية عن طبيعة هذه التنظيمات فكراً وإيديولوجية وتنظيما. وقد بالغ بعضهم في عدائه لتنظيماته السابقة إلى حد التشويه والتحريض عليها، تماما مثلما يفعل أقرانهم في العالم العربي. ولم يكن غريباً أيضا أن تحتفي بهم وسائل الإعلام ومراكز البحوث الغربية، وتقدمهم باعتبارهم "خبراء في شأن الإسلام والإسلاميين". وتحول الأمر بعد فترة إلى عملية "استرزاق" حقيقية، فكلما بالغ أحدهم في نقده وهجومه على الجماعات والحركات الإسلامية ازدادت غلّته ومكاسبه، فالتحليل على حسب الطلب، والمقال على حسب المستفيد، وهكذا. 

أما الجديد في هذه الظاهرة، فهو ذلك الخطاب الاعتذاري الذي يمارسه إسلاميون سابقون، خصوصا من فئة الشباب الذين أصابهم الإحباط واليأس من أخطاء تنظيماتهم، خصوصا جماعة الإخوان، تجاه حركاتهم وتنظيماتهم السابقة، وكأنما على رؤوسهم "بطحة" يحاولون مداراتها، فيتجهون إلى أقصي الطرف الآخر، للمعادلة في التحليل والتقييم والتفسير، فتجد بعضهم يقتطع أحداثاً معينة من سياقاتها التاريخية والسياسية، سواء بوعي أو بدون وعي، من أجل إثبات فكرة أو فرضية بعينها، بعيداً عن تعقيداتها وتشابك ملابساتها. 

وإذا كان مهماً أن نقرأ ونفسّر ونحلل ما يكتبه الإسلاميون السابقون عن تجاربهم داخل جماعاتهم، فإن من المهم أيضا أن يتم ذلك وفق قراءة واعية لمضمون ما يكتبونه، ووضعه في إطار التجارب الذاتية لهؤلاء وملابساتها، وذلك حفاظاً على مصداقية التحليل وأمانته.

أضف تعليقك