• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

رسائل السخط التى تطلق فى الفضاء المصرى فى أيام الشِّدة الراهنة ينبغى أن تسمع قبل فوات الأوان.

(١)
نشرت جريدة الأهرام الصادرة يوم ١٢ فبراير الحالى (أمس الأول) إعلانا على الصفحة الأولى بحجم لافت للنظر كان عنوانه كالتالى: شكر وتقدير ــ يتقدم مستثمرو العبور بخالص الشكر وعظيم الامتنان إلى السادة الذين كانوا ١٤ ضابط شرطة يتقدمهم وزير الداخلية ــ أما موضوع الشكر فهو «ما بذلوه من جهود لإعادة الأستاذ فلان (الذى هو من رجال الأعمال)، الذى تم اختطافه وأعادوه إلينا سالما». رسالة الإعلان تقول إن عودة رجل الأعمال إلى بيته سالما صار خبرا يستحق توجيه الشكر وعظيم الامتنان لوزير الداخلية و١٤ ضابط شرطة. وهو أمر لا مبالغة فيه، لأن خطف رجال الأعمال واشتراط دفع فدية لإطلاقهم بات ملحوظا فى مصر خلال السنوات الأخيرة، ومشهورة قصة عصابة بورسعيد التى تخصصت فى تلك العمليات. وكان أبرز ضحاياهم مستثمر من بنجلاديش. ومن الضحايا المشهورين الذين تحدثت عنهم الصحف المصرية مستثمر سعودى يملك مصنعا للصلصة تم اختطافه مع سائقه فى طريق عودته من الإسماعيلية إلى القاهرة. وقيل آنذاك إن خاطفيه طلبوا خمسة ملايين جنيه لتحريره، أما غير المشهورين الذين تعرضوا للاختطاف ثم أخلى سبيلهم بعد دفع الفدية فى صمت فأعدادهم غير معروفة، لكنها ليست قليلة على أى حال، أو هكذا تقول الشائعات.
لو أنها حوادث استثنائية مما يتعرض له بعض الأثرياء لقلنا إنها مما يحدث فى بلاد أخرى، لكنها تحولت إلى ظاهرة لم تعد تؤرق الأثرياء وحدهم، ولكنها باتت تزعج القادرين خصوصا الذين أصبحوا يعيشون فى منتجعات الضواحى، وغيرهم من أهالى تلاميذ المدارس الخاصة، الذين أصبح أطفالهم يتعرضون للاختطاف واشتراط دفع مبالغ مالية متفاوتة القيمة لإطلاقهم. حتى أصبحت حراسة أولئك الأطفال فى الذهاب والعودة هما يشغل أغلب الأسر.
أفهم أيضا أن يكون هناك مجرمون وراء تلك الحوادث، لكن المشكلة تتخذ منحى آخر إذا لاحظنا أن بعض الجناة ليسوا مجرمين ولكنهم فقراء أو عاطلون. وأن الخطف ليس سوى شكل واحد من أشكال الانحرافات التى ظهرت أعراضها فى المجتمع. ولم تعد مقصورة على الطبقات المعدمة أو الفقيرة، ولكن عدواها انتقلت إلى الطبقات المتوسطة التى جرى إفقارها فى أجواء الغلاء الفاحش الذى أحدث تصدعات اجتماعية غير محسوبة.

(٢)
للأسف ليست لدينا دراسات يطمأن إليها توثق ما أدعيه. خصوصا أن المسئولين لا يرحبون بالمعلومات التى تتحدث عن عمق ونتائج الأزمة الاقتصادية فى مصر، إذ يعتبرون نشر إحصاءات تفشى الجريمة وانتشار حوادث العنف بسبب الأزمة الطاحنة من قبيل تثبيط الهمم والانصراف عن الإنجازات. وربما كانت بيانات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاءات هى الضوء الرسمى الوحيد الذى يوضح لنا بعض مؤشرات الأزمة. آية ذلك أن الصحف الصادرة هذا الأسبوع تحدثت عن ارتفاع معدل التضخم السنوى فى شهر يناير إلى ٢٩.٦٪، وفصل تقريرها فى نسب الزيادات فى أسعار السلع الأساسية من اللحوم والدواجن إلى الخبز والألبان. وأبرزت صحيفة «المصرى اليوم» فى عناوين عدد ١٣ فبراير تعليق الدكتورة عاليا المهدى العميد السابق لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية الذى ذكرت فيه أن تلك النسبة من التضخم هى الأعلى فى مصر منذ سبعين عاما. الأمر الذى يعنى أن المصريين لم يعرفوا مثل ذلك الغلاء الذى يعانون منه منذ ثلاثة أرباع القرن تقريبا.
الأوجه الأخرى للصورة نتعرف عليها من وسائل الإعلام. فالخبراء الاقتصاديون يحذرون من أن القادم أسوأ، فالزيادات فى الأسعار سوف تستمر فى مجالات حيوية عدة (الكهرباء ومياه الشرب والوقود مثلا) طبقا للاتفاق الذى أبرم مع صندوق النقد الدولى. وهو ما يعنى أن معاناة الجماهير سوف تتضاعف، الأمر الذى سيرفع من معدلات العنف والجريمة والفساد أيضا. لأن ملايين الموظفين من ذوى الدخول الثابتة لن يصبحوا قادرين على الاستمرار فى الحياة إلا باللجوء إما إلى الجريمة وإما الرشوة. والذين يرفضون السير فى ذلك الطريق، أمامهم خيار ثالث له سوقه التى أصبحت رائجة فى مصر، التى أصبحت ثالث بلد فى العالم تباع فيه الأعضاء البشرية، بعد الصين وباكستان. حتى بات مألوفا أن تنشر الصحف المصرية أخبارا عن اكتشاف عصابات ومستشفيات ومراكز تقوم بتلك المهمة. أما الذين تسد فى وجوههم كل الأبواب، فإنهم يلجأون إلى الانتحار يأسا من الحياة، فى ظل العجز عن تلبية احتياجات المعيشة أو العجز عن سداد الديون. وبوسع أى باحث أن يرصد تواتر نشر تلك الحوادث فى الصحف المصرية بين الحين والآخر.

(٣)
فى الثامن من شهر فبراير الحالى قام أهالى مدينة «القرين» بمحافظة الشرقية باعتراض طريق سيارة نقل تابعة لوزارة التموين، كانت محملة بكميات من السلع الأساسية فى مقدمتها السكر والزيت والأرز. وما إن توقفت السيارة حتى اقتحمها الأهالى وقاموا بنهب محتوياتها.
الدلالة السياسية للحدث تداولتها مواقع التواصل الاجتماعى التى أعادت إلى الأذهان ذكرى أحداث ١٨ و١٩ يناير قبل أربعين عاما (عام ١٩٧٧) حين انفجر غضب الفقراء بعد رفع أسعار الخبز فخرجوا فى مظاهرات هاجمت بعض المحلات التجارية، وهتفت ضد الرئيس السادات وحكومته. ولايزال جيلنا الذى عاصر تلك الأحداث يذكر الهتافات التى كان منها: يا ساكنين القصور الفقرا عايشين فى القبور ــ سيد مرعى يا سيد بيه كيلو اللحمه بقى بجنيه ــ هو (السادات) يلبس آخر موضة واحنا بنسكن عشرة فى أوضة..إلخ.
فى تعلقيات السوشيال ميديا على الحاصل فى مصر هذه الأيام ترددت عبارات انتفاضة الغلابة وثورة الجياع. وقرأت لأول مرة اسم حركة «ضنك» وتصدى أحد المعلقين للفكرة قائلا إن الانتفاضة أو الثورة لا تكون بالضرورة على شكل مظاهرات جماعية غاضبة تهتف وتهاجم المحلات التجارية، لكنها أيضا قد تكون على شكل انتشار الممارسات الفردية التى تعبر عن النقمة والغضب. وخلص صاحبنا من ذلك إلى أن ما يحدث فى مصر الآن هو ثورة من ذلك الطراز الأخير، وقد ظهرت بوادرها بوضوح بعد تعويم الجنيه المصرى ورفع أسعار جميع السلع. الأمر الذى كان له صداه العنيف فى أوساط الطبقة المتوسطة. أما الفقراء باختلاف درجاتهم فإن وقع الصدمة عليهم كان مضاعفا. وهو ما يسوغ لى أن أقول إن المجتمع المصرى إذا لم يكن فى حالة ثورة فهو على الأقل يمر بحالة القابلية للثورة، وهى ليست ثورة ضد النظام، ولكنها دفاع عن حق الناس فى العيش الكريم، وأحسب أن ذلك التحليل ليس غائبا عن السلطة، التى باتت تحظر وتتشدد فى منع وقمع أى تجمع بشرى فى الشارع المصرى. وإضافة إلى ما تكفل به قانون حظر التظاهر، فإن القرار الأخير الذى منع التظاهر فى محيط ٨٠٠ متر لجميع المنشآت الحيوية، بمثابة خطوة تقطع الطريق على أى تظاهر محتمل فى بر مصر، حتى إذا كان سلميا ويحميه الدستور.

(٤)
حين يصبح السخط والشكوى على كل لسان، ويتواتر الحديث عن تراجع شعبية الرئيس السيسى، فإن التوقف أمام ما يجرى يصبح واجبا، وتغدو مراجعة المسار والخطط أوجب. ولست مؤهلا للقيام بتلك المهمة، لكنى لا أشك فى أن غيرى أقدر على النهوض بها. مع ذلك فربما كان بوسعى أن أسهم فى وصف المشهد وقراءته. فقد أثار انتباهى مثلا تصريح المتحدث باسم صندوق النقد الدولى الذى قال فيه إن انهيار الجنيه المصرى بالصورة التى وقعت تم بأسرع مما كان مقدرا. الأمر الذى يعنى أن الموضوع لم ينل حقه من الدراسة المسبقة. وثمة اتفاق بين أغلب الخبراء على أن اقتران التعويم برفع اسعار الوقود لم يكن إجراء حكيما، كما إن إنفاق الأموال الطائلة، على المشروعات العملاقة أسهم فى إضعاف قوة الجنيه المصرى وأدى إلى تبديد رصيد البلد من العملات الصعبة التى كان ينبغى أن تنفق على أوجه أكثر ضرورة وإلحاحا. سمعت من خبراء آخرين أن زيادة دور القوات المسلحة فى المجال الاقتصادى حولها إلى بديل للقطاع العام حمل مسمى مختلفا. إلى غير ذلك من الأمور التى باتت تستدعى إعادة نظر تصوب المسار وتنقذ السفينة من الغرق.


حين يصبح الاقتصاد فى أزمة. وتواجه السياسة أزمة مستحكمة جعلت مصطلح «موت السياسة» تعبيرا دارجا ومسلما به، فإن أفق المستقبل يصبح معتما ويفقد المجتمع أهم شروط التفاؤل بالحاضر أو المستقبل. وفى هذه الحالة لا يخفف من وطأة الإحباط المبالغة فى التخويف من الإرهاب أو استنفار المجتمع لمتابعة مباريات كرة القدم أو تكثيف برامج المنوعات التى تبثها قنوات التليفزيون أو التهليل الإعلامى الذى يملأ الفضاء بالضجيج.
أدرى أن التحديات كثيرة والأعباء جسيمة، وأفرق بين حل المشكلات وبين توافر الثقة والاطمئنان إلى توافر ذلك الحل فى المستقبل القريب أو البعيد. وأخشى ما أخشاه أن الذى أصبحنا نفتقده هو الثقة والأمل. خصوصا أننا وعدنا بالانفراج بعد سنتين. ولما لم يتحقق المراد صدرت تصريحات تحدثت عن انفراج بعد سنة أو سنتين أخريين. وقذف البعض بالكرة إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة (فى عام ٢٠١٨). وحين تزامن ذلك مع تعالى مؤشرات الأزمة الاقتصادية وارتفاع وتيرة الاحتقان السياسى والتضييق على الحريات، فإن الناس ينبغى أن يعذروا إذا تراجع شعورهم بالثقة ولم يجدوا مبررا للتعلق بالأمل.
إن الرسائل الداعية إلى التنبيه والتحذير والمراجعة تنطلق من كل صوب طول الوقت. لكنها لا تجد من يتسلمها أو من يحاسب على تجاهلها وإنكار وجودها. إذ لا قيمة للأجراس إذا لم تجد من يسمعها.

أضف تعليقك